الرائدة في صحافة الموبايل

عدم دستورية المادة 9 من مشروع قانون المالية رقم 70.19 لسنة 2020 والجريمة المستمرة لعرقلة تنفيذ الأحكام

محمد الهيني 

محام بهيئة تطوان 

لا يخفى أن تنفيذ الأحكام القضائية هو الهدف المتوخى من اللجوء إلى القضاء، إذ لا ينفع التكلم بحق لا نفاذ له، كما أن عدم التنفيذ أو التأخير فيه يلحق ضررا جسيما بالمحكوم له، ويؤثر بالتالي على مصداقية الأحكام وعلى ثقة المواطنين في القضاء.

وتكمن أهمية موضوع تنفيذ الأحكام القضائية في كونها أسمى تعبير من كل الأطراف المعنية عن تمجيد القضاء وتكريم السلطة القضائية، وفي ذات الوقت اعترافا بحقوق المواطنين واحتراما وتكريسا لحقوق الإنسان، ، طبقا لما أكده عليه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، خلال ترأسه لافتتاح أشغال دورة المجلس الأعلى للقضاء يوم 15 دجنبر 1999حيث أكد حفظه الله أنه : ” … من البديهي أنه لن يحقق القضاء هذا المبتغى إلا إذا ضمنا لهيئته الحرمة اللازمة والفعالية الضرورية بجعل أحكامه الصادرة باسمنا تستهدف الإنصاف وفورية البت والتنفيذ، وجريان مفعولها على من يعنيهم الأمر”.

وقد تطور مبدأ تنفيذ الأحكام إلى أن صار مبدأ دستوريا كرسه الفصل 126 من دستور المملكة بتنصيصيه على ما مؤداه: “يجب على الجميع احترام الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء وفي الواقع لا قيمة للحماية القضائية بدون تحقق تنفيذ الأحكام النهائية خاصة منها الصادرة في مواجهة ،ولاشك أن مرور ثمان سنوات على المصادقة على الدستور الجديد ، لم يحل دون رصد واقع لا يرتفع يتجلى في تسجيل مواقف سلبية في حق الإدارة المطلوب ضدها التنفيذ وتفاوتها بين

-امتناعها الصريح عن التفيذ

– إلى تراخيها في التنفيذ

– مرورا بتنفيذها الناقص لقوة الشيء المقضي به

وهكذا أصبحت ظاهرة عدم تنفيذ الأحكام الإدارية تستأهل حلولا ناجعة ومكرسة لمبدأ احترام أحكام القضاء الإداري وضرورة تنفيذها .مادام أن الحماية القضائية لا تكتمل إلا بتمام تنفيذ الأحكام ، ولا قيمة لأحكام القضاء إذا لم يتم تنفيذ ها ، لاسيما في ظل تطور القيم والمبادئ الديمقراطية في الدولة القانونية التي تعتبر الإدارة مثلها مثل الأفراد ملتزمة بتنفيذ الأحكام المكتسبة لقوة الشيء المقضي به

وقد عزز القاضي الإداري دوره في مجال تنفيذ الأحكام الإدارية بناء على نظام وحدة القانون التي تقتضي تطبيق قواعد قانون المسطرة المدنية على الدعوى الإدارية من خلال مقاربة جديدة تعتمد القواعد العامة المتعلقة بالتنفيذ الجبري المسعفة في إجبار الإدارة على التنفيذ ، ولاسيما الحجز على أموال الإدارة

ومن المهم الإشارة أن المادة 9 من مشروع قانون المالية رقم 70.19  لسنة 2020والتي تعد نسخة طبق الأصل لمقتضيات من القوانين المالية السابقة تشكل جريمة مستمرة  بازالة أي مظهر لاجبارية تنفيذ الاحكام القضائية النهائية بتركها معلقة على إرادة الدولة وبمنعها الحجز على أموال الدولة وتعتبر انقلابا بحق على الفصل 126 من الدستور  وعلى ماهية الدولة الديمقراطية التي عمادها الشرعية وسيادة القانون واحترام احكام القضاء وتشكل جريمة تحقير للمقررات القضائية في ابشع صورها لانها تهين مبدأ المساواة امام القانون والقضاء وتخلق تمييزا للدولة عن المواطنين في مجال التنفيذ .

وهكذا نصت المادة 9  من مشروع القانون المالي الحالي على ما يلي :”

يتعين على الدائنين الحاملين لسندات أو أحكام  قضائية تنفيذية نهائية ضد الدولة ألا يطالبوا بالأداء إلا أمام مصالح الآمر بالصرف للإدارة العمومية.

في حالة صدور قرار قضائي  نهائي اكتسب قوة الشيء المقضي به يدين الدولة بأداء مبلغ معين ، يتعين الامر بالصرف بصرفه داخل أجل 60 يوما ابتداء من تاريخ تبليغ القرار القضائي السالف ذكره في حدود الاعتمادات المالية المفتوحة بالميزانية .

يتعين على الامرين بالصرف ادراج الاعتمادات اللازمة لتنفيذ الاحكام القضائية فيي حدود الإمكانيات المتاحة بميزانيتهم .وإذا أدرجت النفقة في اعتمادات تبين أنها غير كافية ، يتم عندئذ  تنفيذ الحكم القضائي بصرف المبلغ المعين في حدود الاعتمادات المتوفرة بالميزانية ، على أن يقوم الآمر بالصرف باتخاذ كل التدابير الضرورية لتوفير الاعتمادات اللازمة لأداء المبلغ المتبقي .في ميزانية السنوات اللاحقة. 

غير انه لا يمكن   بأي حال من الأحوال أن تخضع أموال وممتلكات الدولة للحجز لهذه الغاية “.

ان هذه المادة خطيرة جدا لانها تعصف بالامن القانوني والقضائي وتجعل المقررات القضائية النهائية لا قيمة لها ولا تكتسي أي طابع اجباري بجعل التنفيذ على الدولة اختياري بحيث انه لا وجه لالزامها او اجبارها على التنفيذ لكونها تستطيع تأجيل التنفيذ لسنوات وقرون عديدة دائما بسبب عدم وجود الاعتمادات في الميزانية،وهو ما يعني انهيار الدولة وتحقير مقررات القضاء وضرب في الصميم والعمق لحقوق المواطن . 

وفي مقابل هذا التوجه الانقلابي والاجرامي أفرزت مختلف التطبيقات القضائية سواء العادية منها أو الإدارية على وجه الخصوص ،حرص القاضي الإداري على اعتماد وسيلة الحجز وفقا لشروط معينة من أجل إجبار الإدارة التي لا يخشى إعسارها على تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها خلافا لما أقرته المادة 9 من مشروع القانون المالي .

وهكذا اعتبرت الغرفة الإدارية بمحكمة النقض : ” أن المال المحجوز المرصود أصلا لتسديد التعويضات المحكوم بها …يقبل الحجز … وأن مسطرة الحجز لدى الغير تعد وسيلة من وسائل التنفيذ الجبري التي يمكن لكل دائن يتوفر على دين ثابت أو سند تنفيذي ، استعمالها طبقا للشروط والمقتضيات الواردة بالفصل 488 وما يليه من قانون المسطرة المدنية … حتى يمكن المجادلة في حجية الشيء المقضي به”

وقد تواترت الاجتهادات القضائية الإدارية على هذا المسلك، مؤكدة على : “أنه إذا كان لا يجوز الحجز على الأموال العامة للدولة والأشخاص الاعتبارية العامة باعتبار أن الحجز والتنفيذ عليه من شأنه أن يعرقل ويعطل وظيفة النفع العام الملقاة على عاتقها، فإنه استثناء من ذلك يجوز الحجز على الأموال الخاصة لأشخاص القانون العام متى كان الحجز بحسب تقدير السلطة القضائية المقررة للحجز ليس من شأنه عرقلة سير المرفق العمومي أو تعطيل خدمات جمهور الناس به أو متى تم رصد الأموال للتنفيذ ولسداد التعويضات المعنية بالأحكام”حتى مع تعلق محل هذا الحجز بمال مودع بين يدي القباضة الجماعية على أموال الجماعة المعنية بالتفيذ مادام أن مقتضيات المادة 88 من المرسوم رقم 441-09-2 الصادر بتاريخ 3 يناير 2010 بسن نظام للمحاسبة العمومية للجماعات المحلية ومجموعاتها تجيز إجراء الحجز بين يدي الخزنة أو القباض الجماعيين ، دون غيرهم من المؤسسات تحت طائلة البطلان ،خلافا للاجتهاد القضائي الذي كان ينفي صفة الغير على القباضة المودع بين يديها مال الجماعة المحجوز عليها ولا يعتد بالتالي بمثل هذا الحجز لمجرد أن المحجوز بين يديه ليس بغير بمفهوم الفصل 488 من قانون المسطرة المدنية .

وقد اعتبر الاجتهاد القضائي الإداري أن وجود صعوبة للإدارة في تنفيذ الحكم الصادر في مواجهتها ، يشكل ظروفا خاصة بها ولا علاقة لطالب التنفيذ بها ، وبالتالي فإنه من واجب الإدارة سلوك الإجراءات اللازمة من أجل تنفيذ هذا الحكم لا أن تعمل على خلق أعذار ومبررات لتعطل عملية التنفيذ مادام لا يوجد بالملف ما يفيد قيام الإدارة باتخاذ أي إجراء ايجابي يستشف منه عزمها على القيام بعملية التنفيذ، مما يجعل إثارتها للصعوبة في التنفيذ المبنية على ظروف تتعلق بها غير مبني على أساس وينم فقط عن وجود تماطل من جانبها لتنفيذ الحكم المستشكل في تنفيذه.

وقد لقد كان من نتائج التكريس الدستوري لمبدأ تنفيذ الأحكام ،وإقراره لمسؤولية الدولة في تطبيق القوانين،أن أصبح الوزراء دستوريا مسؤولون عن تنفيذ السياسة الحكومية كل في القطاع المكلف به، وفي إطار التضامن الحكومي(الفصل 93) تحت إشراف رئيس الحكومة باعتباره صاحب السلطة التنظيمية(الفصل 90).

وإذا كان رئيس الحكومة يمثل الدولة أمام القضاء ،فإن عدم توفر ميزانية رئيس الحكومة على اعتمادات مالية من أجل تنفيذ الأحكام،يطرح إشكال حقيقي في غاية الأهمية والخطورة في نفس الوقت بالنسبة للأحكام القاضية على الدولة مباشرة بأداء مبالغ مالية ،من جهة تحديد الجهة المخاطبة بالتنفيذ ،والحساب المالي المرصود له،لاسيما أمام تعاظم دور مؤسسة رآسة الحكومة و واستقلالها عن باقي الوزارات ماليا وإداريا ،وتمتعها بالشخصية المعنوية مثلها مثل رآسة الحكومة .

ومن المهم الإشارة أن عدد ملفات التنفيذ ضد الدولة التي تتطلب حلا عاجلا لمواجهتها صارت مرتفعة جدا بشكل لا يتصور، لاسيما وأن المستفيدين من هذه الأحكام ما فتئو يتقدمون بطلب لتحرير محاضر امتناع في مواجهة الدولة في شخص رئيس الحكومة ،لذلك يقترح إيجاد حلول عاجلة للتنفيذ،وتوفير ميزانية بهذا الخصوص ،لأنه لا قيمة للأحكام بدون تنفيذ ،ولا قيمة لدولة الحق والقانون بدون حماية فعالة لحقوق المواطنين بالوصول إليها وتنفيذها بسرعة ويسر وفي أقرب الآجال.

إن محدودية الحلول التي اهتدى إليها القاضي الإداري لإجبار الإدارة على تنفيذ أحكامه والمتميزة هي الأخرى بمرجعية القانون الخاص وعدم اقترانها بآليات قانونية كفيلة بإجبار الإدارة على التنفيذ وتفريعا عن ذلك ، فإن أي مقاربة قانونية لإشكالية تنفيذ الأحكام الإدارية والحلول تقتضي :

أولا إزالة كل أشكال الشطط والتعسف المنافية للشرعية والقانون بالتزام الإدارة صحيح القانون في قراراتها وأعمالها الأدارية والمادية

ثانيا استحضار المرتكزات الدستورية لإشكالية تنفيذ الأحكام الإدارية باعتبارها مدخلا لأي معالجة تشريعية لاحقة :

-أن التنفيذ عملية قانونية وقضائية يستقل بها القضاء الإداري ويختص بها دون غيره ،ويحظر تدخل أي جهة كيفما كانت في إجراءاته .

-أن التنفيذ يتضمن في طياته نهاية المنازعة القضائية الإدارية ،وأن القاضي الإداري مدعو إلى السير بإجراءاته إلى نهايتها، تقيدا منه بقوة الشيء المقضي به.

-خضوع الجميع إدارة ومواطنين لقوة الشيء المقضي به طبقا لمبدّأ المساواة أمام القانون والقضاء.

-وجوب امثتال الإدارة بقوة القانون لقوة الشيء المقضي به ،تحت طائلة إخضاعها لطرق التنفيذ الجبري المتوافقة مع طبيعتها.

-التنفيذ داخل الأجل المعقول ،فإذا كانت إجراءات المحاكمة والبت تخضع للأجل المعقول طبقا لما أقره الدستور ،فبصفة أولى خضوع التنفيذ لهذه الأحكام تيسيرا على المنفذ له في الحصول على حقه بسرعة.

– عدم جواز فرض أو سلوك إجراءات إدارية أو قضائية تعيق التنفيذ أو تشل فعاليته من خلال الاستشكالات في التنفيذ غير الجدية أو الكيدية.

-عدالة التنفيذ بإجراءات منصفة وفعالة وسريعة ،ومرنة وغير مكلفة ماديا ومعنويا للخصوم.

وعلى هذا الأساس، يكون المشرع مدعوا إلى التدخل لسن قواعد قانونية واضحة المعالم تفعيلا للمقتضيات الدستورية المؤكدة على عدم المساس بوقارالقضاء الإداري ودعم مصداقية أحكامه ، وذلك من خلال :

– إصدار قانون خاص بالإجراءات الإدارية مستقلا عن قانون المسطرة المدنية في أفق إحداث المحكمة العليا الإدارية ، وتخصيص باب مستقل بتنفيذ الأحكام الإدارية .

– تفعيل دور مؤسسة قاضي التنفيذ في مجال تنفيذ الأحكام الإدارية مع اضطلاع كل محكمة إدارية بتنفيذ أحكامها ،وبواسطة المفوض القضائي المختار في حالة وقوع التنفيذ خارج الدائرة القضائية للمحكمة التي أصدرت الحكم المراد تنفيذه.

-تمكين المنفذ له من اختيار المحكمة المراد التنفيذ في دائرتها بالنظر لوقوع الشيء المحل التنفيذ،وفك الارتباط بين المحكمة المصدرة للحكم وبين جهة التنفيذ

– التنصيص على المسؤولية الشخصية للموظف العمومي الممتنع عن تنفيذ الأحكام الإدارية بدون وجه حق

– إقرار مسؤوليته التأديبية

-إقرار مسؤليته الجنائية ،وفي ذلك تخفيف لأعباء مالية إضافية عن الإدارة عندما يثبت أن سبب الامتناع عن التنفيذ موقف شخصي صرف .

– نشر القرار الإداري التأديبي أو الحكم القاضي بتطبيق جزاءات مالية ضد الممتنع عن تنفيذ حكم إداري ،في جريدة وطنية أو أكثر .

-اعتبار الحكم الذي يلزم مالية الإدارة بمثابة أمر بالأداء ملزم لميزانية الإدارة المعنية بالتنفيذ مع وجوب تضمن هذه الميزانية لبند خاص بتنفيذ الأحكام الإدارية.

إن الإدارة ملزمة قانونا ودستوريا بالخضوع إراديا وتلقائيا للقاعدة القانونية بمفهومها الواسع مادام تفعيل مفهوم العدالة الإدارية يستند إلى إجبارية خضوع الإدارة تلقائيا وبحسن نية لمبدأ الشرعية الدستورية، ليس فقط سلبا، بالاستنكاف عن مخالفة ما قرره القضاء ، بل كذلك إيجابا بالعمل على اتخاذ جميع الإجراءات والتدابير اللازمة لتنفيذ قوة الشيء المقضي به .

وتجدر الإشارة في الأخير أن المادة 9من مشروع القانون المالي الحالي كما المشاريع السابقة التي وقع اسقاطها منه  تشكل انتكاسة للدستور ولدولة الحق والقانون وتهديدا حقيقيا وجديا لحصانة الأحكام القضائية ووجوب تنفيذها طبقا للفصل 126من الدستور وتشكل بحق التفافا على المشروعية وسيادة حكم القانون من خلال الانتقاص من أحكام المحاكم وجعلها هي والعدم سواء وخرق مبدأ المساواة أمام القانون والقضاء ،لأنه لا يعقل أن تحصل الإدارة ديونها في مواجهة الأفراد بالسرعة والإجبار والإكراه والحجز المباشر على الأرصدة المالية من خلال تقنية الإشعار للغير الحائز ،فيما تبقى الإجراءات المتخذة بحقها بطلب من المحكوم لهم حبرا على ورق ،فضلا عن أن مشروع قانون المالية غير مختص بتنظيم قواعد التنفيذ الجبري للأحكام، باعتباره قانونا ذا طبيعة مالية ، الشيء الذي يستدعي موقفا واضحا وحازما من جميع المختصين وهيئات المجتمع المدني لرد أي انتهاك يمس بمصداقية القضاء وأحكامه ومبدأ صون الأمن القانوني والقضائي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد