المقاربة الأمنية ليست كافية للضبط.. المدرسة هي المشتل..
د. محمد حماس
ليس دفاعا عن أحد، بل دفاعا عن هذا البلد الذي نحبه وفضلنا العيش فيه دون الارتحال لسواه .. دفاعا الفكرة التي تتأجج فينا .. دفاعا عن الثوابت والقناعات .. كان حلمنا أن تتغير أشياء كثير، أهمها قيمة الإنسان المغربي، من خلال ضمان حريته وكرامته، وتحقيق مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص .. كبرنا وكبرت أحلامنا دون أن نراها تتحقق على أرض الواقع، فبدا أننا سوف نحملها معنا إلى اللحد، ويبقى وزرها على كاهلنا تجاها الأجيال من بعدنا .. أردنا أن يكون مستقبل أبنائنا أفضل مما عشنا عليه .. ولت سنوات الجمر والرصاص والاعتقال والمعتقلات السياسية .. كان صراعنا مع طغمة كمبرادورية استغلت العباد واستنزفت ثروات البلاد ..
اليوم لا ننكر أن هناك فسحة كبيرة للكلام والبوح والتعبير عن المكنون وطرح المطالب التي تحقق منها الشيء غير اليسر. لكن تبقى المطالب الكبرى، التي من دونها لن تقوم لهذا البلد قائمة، وعلى رأسها التعليم، وأقصد التعليم العمومي والحد من ورم التعليم الخصوصي الذي تأكد أن لا فعل له غير الاستثمار البشع .. فالقول الفصل هو للمدرسة العمومية التي تقف عند عتبة ما نسميه الاختيارات السياسية، أو بتعبير بسيط، وضع المدرسة العمومية على السكة الصحيحة وفق اختيارات شعبية تجعل مصلحة البلاد هي العليا .. وهذا أمر قلنا وقال فيه غيرنا الكثير والكثير دون أن يحين موعد دق جرس البداية ..
التركيز إذن على المدرسة العمومية المغربية التي منها وفيها وعبرها سوف تتشبع الناشئة بالمعرفة كسلاح لمواجهة الجهل، ويكتشف الإنسان إنسانيته، ويتربى الأبناء على الحرية والنقد والمبادرة .. مشبعين بالقيم الإنسانية والأخلاقية والوطنية، وثقافة وتاريخ وتراث بلدنا المغرب وسط هذا المحيط الممتد بين التحديث والعولمة المتوحشة .. والأهم من كل هذا، فالمدرسة العمومية هي القناة الوحيدة المخول لها إنتاج ذلك الإنسان الواعي لذاته ولغيره، القادر على ممارسة حرياته واختياراته، والتمييز بين الخبيث والطيب .. هكذا يجب أن تسير الأشياء وتوضع بشكل مرتب منطقيا ..
أقف هنا عند السيدة قائدة المقاطعة الإدارية 18 بوجدة، والتي تبدو ضيقة في إطارها، إلا أنها لا تخرج عن سياق التقديم، باعتبار أن ما يجري من وقائع، يمكن التعامل معه كظواهر غير صحية، هي من تحصيل حاصل، مردها غياب منظومة تربوية تعليمية تعلمية من شأنها الارتقاء بالإنسان في إنسانيته وثقافته، أي في نمط حياته، انطلاقا من الموقف الذي أوردناه سلفا في التقديم لهذه الورقة. وهو امر لا يختلق عن تعرض الأستاذ داخل القسم للعنف والإهانة.
منظومة شمولية سعت منذ مدة غير قصيرة لطرح مقاربة أمنية جديدة، بما لها وما عليها، وأقصد هنا التواجد الميداني لرجال السلطة، من حيث تواصلهم مع المواطن، وولوج الإدارة، وأسلوب التعامل، والسلوكيات التي حتما تختلف عن عهد مضى، بمعنى أن الحديث هنا ليس عن القرارات السياسية التي هي اختيارات تملى للقمع المتظاهرين والاعتصامات وما رافقها، لأن الحديث في هذا السياق يقع وزره على سياسة حكومة تولت تدبير الشأن العام باسم حزب أفرزته صناديق الاقتراع وتولى مهمة تشكيل حكومة، رغم أن العديد من المتحمسين لهذا الحزب أو ذاك تراجعوا عن دعمهم له وكأن شيئا لم يقع، وذاك حقهم وموقفهم وشأنهم. الذي يهم هنا هو القناعة والوضوح وليس غريزة القطيع (….). الأمر يتعلق بسياق آخر بسيط، الحديث هنا عن الأمن الذي يتولى ضبط مخالفات المرور وتوفير الوثائق الرسمية وتتبع الجرائم والزج بالمعتدين في السجن، والسلطة المحلية التي تهتم بقضاء حوائج المواطنين، إنهم يسهرون على أمن العباد والبلاد. فتعززت شبكة الأمن والسلطة الإدارية بطاقات شابة خلفا مختلفا عن الجيل السابق، تحمل شهادات دراسية عليا، وفسحت المجال للحضور النسوي اللافت، ليس لمقاربة النوع، لكن ذلك التواجد الذي شكل قيمة مضافة للأسلاك التي تحتلها المرأة كمسؤولة إلى جانب الرجل، ليس من باب المقارنة بين الجنسين، لأن الأمور تؤخذ بالمصداقية والمردودية، والنجاح في تحقيق المهام المنوطة بالمسؤول.
أتيحت لنا فرصة تتبع حركية السلطات المحلية والأمن خلال فترة الجائحة هذه، باعتبار استثنائية الوضع. فسجلت شخصيا، والغالبية العظمى من المغاربة، من خلال مواقع التواص الاجتماعي والكتابات والتعليقات والصور والفيديوها التي وثقتها الجهات المعنية ذاتها، كيف أن هؤلاء يؤدون عملهم بحس إنساني كبير جدا … لا ننكر بعض الهفوات، التي في اعتقادي لا يجب إسقاطها على الفعل في شموليته. ونضرب مثلا هنا، على سبيل الاستئناس لا الحصر، بالسيدة قائدة المقاطعة 18 بوجدة، باعتباري أحد ساكنة هذه المقاطعة .. وتتبعت بأسف شديد الحملة التي تعرضت لها وهي تؤدي واجبها بناء على شكاية من الجيران بسبب ضرر ألحقه بهم شخص ليس من حقي تقدير سلامة قواه العقلية، فقط أقول أنه سلوك شاذ وينم عن جهالة .. أن يضع مكبر الصوت ليسمع الحي كله تلاوة القرآن، فهذا أمر مرفوض لأنه يزعج ويقلق راحة الجيران وليس له حق أو ترخيص بذلك .. ثم لأن سماع القرآن أو العبادات شأن خاص بكل فرد في علاقته مع الخالق، ولا باب للمزايدة فيه لأنه لا واسطة بين الخالق والمخلوق وهو “يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ واللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ”(التغابن4). وفيه من الغرابة الشيء الكثير، فهل كل من أراد أن يستمع القرآن الكريم لابد وأن يجهر بذلك عبر مكبر للصوت !!!!
الغريب في النازلة هو تحامل البعض على مسؤولة تؤدي واجبها الذي لقي استحسان الناس بداية من الجيران، وقد قمت بتتبع جل التصريحات، بما فيها ابنة الشخص المتسبب في الضرر، فاتضح أن الشخص المعني يعاني من مشاكل مع الجيران، حسب تصريحاتهم في الفيديوهات المنشورة عبر مواقع التواصل صوتا وصورة، وهي علاقة كانت محل شكايات بالمحكمة … وهو أمر لا نريد الخوض فيه، فقط نريد التأكيد على أن استعمال مكبر الصوت وإزعاج الآخرين لا يمكن استساغته كيفما كان، حتى ولو كان هذا المكبر ينقل القرآن الكريم، لأن كتاب الله بريء من مثل هذه السلوكات .. هذا السلوك غير بعيد عن سلوك شاذ هو رشق عناصر الأمن والسلطة المحلية بالحجارة في غياب الأسرة المسؤولة عن تربية أبنائها. وهو سلوك يذكرنا بما يتعرض له نساء ورجال التعليم داخل حجرات الدرس من عنف بسبب سوء تربية الأبناء ومجموع القوانين المنظمة للحياة المدرسية (…). ثم العصيان وعدم الامتثال لقواعد الحجر الصحي .. جميعها مظاهر تنقل صور تفشي الجهل في مجتمعنا، ذلك الجهل الذي راكمته السنين والسياسات المنتهجة، خاصة في مجال التعليم، الشيء الذي يجعلنا لا نستغرب ما يقع. إنها محطة ينسج تاريخها واقع دون غيره، ودون تحريف .. حلت الجائحة ومات خلق غير يسر، وتهافت الناس على المؤونة يخزنونها، اما التجار فجلهم فاسدون محتكرون، رفعوا الأسعار وعم الغلاء، وأفسد البدو العمران، وحل بالعباد الأمر الجلل، وتسرب الخوف إلى الأنفس، رغم حرص أهل الأمن والصحة، فاحتاروا بين حرب الوباء وحرب الجهل ..
وبالتالي لابد من إعادة النظر في عدد من المقاربات، ومنها المقاربة الأمنية التي ليس كافية لضبط جمهور الجاهلين وتوعيتهم بما الموت المتربص بهم وما يسببونه لغيرهم من أذى ..
نساء ورجال الأمن والسلطة موظفون .. المحاسبة يجب أن تكون مع المنتخبين والسياسيين داخل المؤسسة التشريعية والتصويت على القوانين التي أنهكت العباد، والأحزاب السياسية ودورها في تأطير أفراد المجتمع لأنها تأخذ دعما على ذلك، وموقف النقابات من تمديد سن التقاعد، والاقتطاع لصندوق التقاعد، والتعاقد بدل التوظيف … أما أن نصب جام غضبنا على شرطي أو قائد، فهذا يكشف عن بذرة التأخر التي نمت وترعرعت في عقولنا. إنهم موظفون يؤدون مهامهم وفق تعليمات يتلقونها .. كم من رجل سلطة أو أمن تم عزله لأنه جاوز حدوده واتسم سلوكه بالشطط، وهو امر محمود ..
الأمر المؤكد هو الخلل الذي تعاني منه السياسة التعليمية، فبدون تصحيح ورد الاعتبار للمدرسة العمومية، بمختلف مكوناتها، لن يستقيم أمر أي سلوك للإنسان، حيث سنعيش الجهل المضاعف ..