تجربة التشكيلي التونسي فريد العرفاوي تَرْتُقُ الماضي بخيوط المعاصرة
لفتت نظرنا تجربة تونسية معاصرة، تجربة تستحق أن تُذكر،صاحبها تونسي من جيل الشباب، هو فنان تميّز بأسلوبه المنفرد في رسم الذاكرة البصرية بألوان المعاصرة، وقد لا نستغرب أسلوبه هذا، ذلك أنّه تشرّب من تراثه وأصالته ومزجه بما نهله من تاريخ الفنون التشكيلية الغربية جراء دراسته الأكاديمية بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس. هكذا هي تجربة إبن العرفاوي، ملهمة ومعبّرة، فبقدر ما تحمله من بحوث وأفكار فنيّة تحمل كذلك رؤى وتجليات وإشراقات شخصيّة لشخوصها. لسنا نغالي إن قلنا عنها أنّها تجربة رائدة في زمانها ومكانها، فهي تجربة تبحث عن التجديد في غياهب الذات، ترتق الماضي بخيوط المعاصرة.
إنّ الرائي في لوحاته يلاحظ ذلك الإنتقال في خضمّ عالمه الخاص، عالم يبحث حتما في عوالم المرأة ولكن ترى هل إمرأة العرفاوي هي الجسد؟ أم هي الأنثى أم الإثنين معا؟ أم هي المعنى وحسبنا ذلك؟
من خلال استثمار بحوث وتشكيلات إبن العرفاوي نجد إنّ المرأة عنده اتصفت بالتواصل نحو الإنفلات من الهاجس لتنقلب داخل الفكر، إمرأة تبحث تارة في الهوية وطورا في الذاكرة لتنفلت في غفلة من الزمن الماضي إلى الحاضر ولما لا المستقبل، أنثى في شكلها وبنائها وذاكرة في ألوانها وتشكلها،…
تميّزت لوحته “الأنا والآخر” (أكريليك على قماش 80/ 100 صم) ببنيتها الفنيّة المتميّزة وألوانها المتضادّة ووجود وجهين متقابلين يحملان نظرة تأمليّة تبدو باحثة ربما عن الأصول في وجه المرأة التونسية الملامح والأخرى الغربية الملامح، أو قد تكون باحثة عن سؤال طالما أرّق الباحث التونسي في الفنون التشكيلية وهو سؤال الهويّة والمعاصرة، التبعيّة والإنسلاخ عن الآخر، فالمرأة التي في الخلف عربية أصيلة، تعبّر بوجهها وبتفاصيلها التي أتقنها الفنان عن هويته البصرية التي رتقتها ذاكرته، فرسم الأقراط الكبيرة والعينين الواسعتين ذات الكحل بما فيه من معالم الجمال التونسي الأصيل، ولم يهمل الوشم ربما لأنه أصيل بذاته. في حين تميّزت ملامح الوجه الثاني أو المرأة الثانية والذي يذكرنا بملامح “مارلين مونرو”، غير أنّ إبن العرفاوي سلخ عنها جمال الشخصيّة وألبسها ملامح فاترة بالرغم من حضور مقومات الجمال الأوروبي من استحضار الشعر الأشقر و حمرة الشفاه التي طالما تميزت بها الشخصيّة.
إنّ ما يمكن أن تلخّصه هذه اللوحة وما حملنا إليه كذلك وعينا بهذا العمل أنّ العرفاوي يرى الجمال العربي كحقيقة دائمة ومتواصلة وهي الأنا هي “أناه” و”أناي،” هي المرأة العربيّة، هي الأنوثة بجمالها وإن غزتها رياح المعاصرة…
لقد حاول إبن العرفاوي أن يظهر كلّ ما إرتهن في خياله ليجسّد ملامح المرأة العربيّة حتّى أن نظرتها تحمل الإبتسام، تحمل الفرح، تحمل الجمال الأصيل، فهي ذات نظرة ثاقبة، بينما الثانية ترمق في نظرة فاترة، شاحبة، ترمق الأولى في استخفاف أوسخرية، غير أنّ الأولى تبقى لتتأملها في ثقة وكأننا بالفنان ركّز على الأولى ليؤكّد لنا جذوره التونسيّة الأصيلة وتشبثه بالهوية مع أهمية التلون بلون العصر حتى لا يغرّد خارج السرب التشكيلي. هكذا هي لوحة “الأنا والآخر”، طاقة إبداعيّة تحمل كمّا من المنطلقات الفكريّة التي تروي لنا في تفاصيل ملامح شخصياتها قصّة الأنا والآخر، قصّة المرأة العربيّة المتأصّلة في جذورها والأخرى المبوّبة في تفاصيلها الغابرة مع الزمن.
وللرائي أن يلاحظ أن الفنان قد أوغل في رسم تفاصيل الجمال العربي ذلك الجمال التونسي التقليدي ليرسم وجه المرأة الموشّى بالوشم قطعا من الحلي التقليدي وحتى الساقان هما في وضعية الرقصة التقليديّة. إنّه رتق الماضي بخيوط الحاضر والمستقبل الذي تحدثنا عنه منذ البدايات…
جمع الفنان في تشكيل ذاكرته الأسلوب التشخيصي في رسم ملامح المرأتين وبعض من قطع الحلي والأسلوب التجريدي في رسم خلفيّة العمل، كما عمد إلى تلوين خلفية العمل بألوان هي أقرب للأنا وذلك إذا ما كان الأنا هو المرأة التي في الخلف والآخر هي المرأة التي في الأمام ولكن قد تبدو الثانية في حالة إغتراب فلا هي “مارلين مونرو” ولا هي المرأة التونسية الأصيلة بملامحها الأروبية، هي الكلّ معا، هي الذاكرة والأصول، هي الماضي والحاضر، هي الهوية والمعاصرة،…، هي بحث الفنان عن الذات
فريد العرفاوي، “الأنا والآخر”، أكريليك على قماش 80/ 100 صم
جعلتنا هذه اللوحة نسهب في وصفها، ذلك أنّها تحمل في طياتها تعابيرا ومعاني ثرية أثارتني كيف لا تكون وهي اللوحة التي جعلتني أهتم بقراءة تجربته وجعلتني أتصفح تشكيلاته، ومن خلالها أيضا أيقنت جمال أسلوبه وإلهام ذاكرته وحبّه وإنغماسه في الفكر والبحث في الأصول وكذلك البحث عن الذات. ونجده يقول في هذا المعنى: “في إطار رحلة البحث عن الذات بات موضوع صورة المرأة شغلي الشاغل لاسيما أنني اعتبرها حمّالة الفكر والمعنى، ومن خلالها كان البوح وبدت تتجلى الأبعاد والتوجهات… الى جانب اهتمامي بدرجة اقل بمواضيع اخرى اعتمد تقنيات مزدوجة حينا وأحيانا أخرى الأكريليك أو الألوان الزيتية أو الكولاج”.
ولو استمرينا في النظر في بقية لوحاته سنلاحظ باستمرار هذه الفلسفة الوجودية التي تغزو بحوثه الفنية سواء من خلال استحضار مواد التراث وتقنياته ومزجها بالمعاصرة أو من خلال استحضار شخصيات تميزت بها فلسفة الوجود ك”جلجامش” وغيره،… هكذا هو الفنان يصور لنا الواقع في تشكلاته، لنراه يرسم واقع المرأة اليوم، هذه المرأة التي تعيش حالة إغتراب بين أن تكون تونسية أصيلة وبين أن تلتحف بملامح أروبيّة لتشعر بتقدمها وتطورها ومع ذلك تبقى في تأرجح بين أن تكون هي أو أن تكون الأخرى.
إنّ إبن العرفاوي لا يتنصّل من الأنثى ولا يتجاوز جسدها فهي توجد في جلّ أعماله، إمّا بإثارة معانيها أو استثارة جسدها في لمحة تشخيصيّة لتكون لوحته “جموح” شاهد عيان على قولنا، لتحضر الأنثى هنا بجسدها العاري وهي تمتطي صهوة الحمار ممسكة بلجامه بينما تتمايل جدائلها السوداء على كتفيها. هكذا رسم الفنانلوحته “جموح” بنفس الطريقة التي رسم بها لوحته الأولى “الأنا والأخر”، فالخلفيّة تكاد تكون واحدة بالنسبة للّوحتين أو ربما هي جزء آخر من العمل لاسيما وأنّ الموضوع واحد هنا، وهكذا تكون الرؤية التي أطلقناها عليه صحيحة حيث تبدو المرأة من القضايا التي تدور حولها أفكار الفنان لتبدو في لوحته الأولى بين متأصلة،مغتربة وفي الثانية جامحة، رافضة لأن تكون عورة فقد رسمها متحرّرة من كل القيود لتبدو خصلات شعرها متدلية ونهديها في ظهور واضح وكـأننا بحواء في كامل عنفوانها تقود حصانا جامحا يأبى وأن ينصاع إليها وقد يكون هذا الحصان هو “الآخر” أو هو كذلك ربّما…، ولكن هذه إرادة العمل الفني يستبيح كل المعاني وكل الرؤى ليبني لرؤية الذات الفنية، ذات المبدع وحده وليس غيره،…
جموح، أكريليك على قماش 80/ 100 صم
تحضر المرأة في تعبيرات إبن العرفاوي بإسهاب تشكيلي متنوع، لتحضر في كلّ حالاتها فهي تونسية الملامح أصيلة تحمل على عاتقها تقاليدها وعاداتها، فنراها قرويّة فلاحة، ونراها حاملة لتباشير عصرها، هكذا رسمها في كل أوجهها، فتارة هي أصيلة تحمل في ملامحها تقاليد المرأة التونسية القرويّة وتارة هي متحرّرة تعصف بها رياح التغريب وتارة أخرى بين هذه وتلك لا تلوي على شيء غير الغربة الوجودية، غربة فنان رسمها في الأنثى بمعانيها الباحثة عن التأصيل.
محطة أخرى تجعلنا لا نتضارب مع قولنا السابق بل نواصل فيه، ذلك أنّ محطّتنا هذه والتي تستوقفنا عند لوحة “عنونها ب”الصباح الجديد” تشير أنها مواصلة للعملين السابقين، فالفنان يجهد نفسه في سلك طريق الغربة والبحث الوجودي، فاللوحة تشترك مع عالم وموضوع اللوحتين الأولى والثاني، فالخلفية تكاد تكون واحدة أو هي كذلك وإن اختلفت في بعض تمفصلاتها لتبقى الألوان والأنثى شريكا أساسيا بينها.
فريد العرفاوي، “الصباح الجديد، أكريليك على قماش 80/ 100 صم
وبتجوالنا بين مرافئه الفنيّة وهنا نقول مرافئه ذلك لأنه للفنان محطات فنيّة مختلفة، قد تختلف من حيث البناء والتركيب الفني ولكنّها تجتمع عند مستوى الأفكار، ففريد العرفاوي في كلّ مرّة يحمل على عاتقه التشكيلي قضية ما، لنجده ينتقل بنا من البحث في عوالم المرأة المشوّشة بين ذاتها وذات الأخرى، بين خياراتها وهويّتها وبين متطلبات التعصير ليأخذنا هذه المرأة إلى قضية قد لا تبتعد عن الأولى بل هي ترتبط بها ارتباطا وثيقا فهو يبحث في الزمن.
تشويش الزمن ، تقنيات مختلفة، ألوان زيتية وأكريليك، 1999
البيّن أنّ لوحاته لم تقم على الارتجال أو الصدفة، كما لم تقم على الذّاتيّة أو التلقائيّة ولكنها ارتكزت على الصياغة المنسّقة والتّعبير الإرادي المنظّم، فقد تميزت تعبيراته بالدقة والصرامة والنهل من تاريخ الفن العالمي ومن تراثه وحضارته العربية كما قامت على روح التشدّد مع الذّات، وقد يكون هذا الجماع بين هذه المتفرقات ضمن إرادة الفنان في تحقيق نوع من التواصل بينه وبين المتلّقي، لنراه مرة متواريا ومختفيا وراء شخوصه، ومرّة داعيا المتلقي أن يتقمّص ويشترك في حوار رؤاه البصريّة في الشكل وفي الجوهر، وقد يُؤكّد ذلك عمله المُعنون ب “هكذا أنشد برومثيو” ، حيث دار موضوعه حول الغربة والذات،والتي قد تكون غربة الفنان نفسه أ وربما هو الفنان يفكّر في واقعه غير راض عنه أو ربما يعكس عمله هذا حالاته النفسيّة ومكابداته الروحيّة إزاء الواقع والراهن الذي يعيشه لتكون انتاجاته الفنية تفاعلا مع واقعه ولعلها رسالة الفنان الحقيقي يصارع عالمه الداخلي ليجد مأواه في تشكيلاته.
في محصّلة القول تحفل أعمال فريد العرفاوي بالعديد من الدلالات المُضمَرة تارة والظاهرة تارة أخرى، الصريحة في شحوصها والمتوارية في ألوانها وأشكالها،… ولعلّ تمكنه من تقنية الرسم جعله ينجح في إبداع أسلوب فني متميز عن غيره من فناني عصره، فلا هو مقلّد لغيره ولا معيد لفن الرواد، بل إنّه يطرح رؤية ذاتية جمع فيها التقاليد بالمعاصرة في أسلوب حداثي منوّعا بين الأساليب والمواضيع الفلسفية ذات البعد الوجودي…
خلاصة الرحلة الفنية في عوالم فريد العرفاوي تعلن عن خطاب فكري، فلسفي، وجودي، حمّله لشخوصه التي اتخذت أوضاع “البورتريه” و”البروفيل” والتي بدت منحازة إلى التفكير في الزمن، فهي شخوص مألوفة عندنا ولكنّ وضعها يختلف عن ما ألفناه، فهي تدفعنا إلى التفكّر معها والبحث في ما يشوّشها، فكأنّنا بشخوصه تحاورنا باعتبارها في ارتباط بنا وبمحيطنا،ا تذكّرنا بماضينا وحاضرنا، كما لا تُخفي ذلك البعد التفكيري والوجودي الذي تدفعنا إلى التفكّر فيه بعمق وتمعّن. ولكن بالرغم من هذه الحداثة التي تبدو صارخة ومُعلنة في تشكيلاته من حيث الشكل والبناء، إلا أنّه يبقى كلاسيكيا في بحوثه الفنيّة في فن الرسم المسندي وقد ينتفي عنه هذا القول إذا ما نظرنا في ممارساته الحالية والتي تذهب مع مزاوجة الفن والفكر مع تكنولوجيات العصر فالفنان قد دأب منذ مدّة ليست بالطويلة في ممارسة الرسم بالبرمجيات الحاسوبية والتي تنتشر على صفحته الفايسبوكية.