أغمات.. نبض الشعر الذي لا يموت
أمينة حسيم – مراكش
بقلب ضريح المعتمد بن عباد في أغمات،يسكن الشعر آمنا مطمئنا،ينعشه نسيم الصباح والمساء،ويستفييق على عطر الزهور وعبق الرياحين التي تملأ جنائن وبساتين هذه المدينة التاريخية الساحرة،…هناك في أغمات، حيث الشعر مازال ينادي الأرواح البريئة والمهج الوضيئة، ويناجي الجمال والسحر عند مطلع الشروق و منتهى الغروب،يستأنس راضيا مرضيا في خلوته مع كل خفقة من خفقات هذا الكون الفسيح الذي يتجلى حوله،جبالا كاسيات بالجمال صيفا وشتاء،خريفا وربيعا،ويتدثر نخيلا سامقا،وأشجارا وارفات يشدها العشق، ويجذبها الشوق لمناجاة شعرية صارخة بين الملك ابن عباد وزوجته الرميكية الشاعرة الجميلة،المنتلئة بنبض الحب والحياة،يصنعان لحظتهما البلورية الشفافة، بعيدا عن القصور والبذخ والرفاه،الذي لم تبق منه سوى صور تعبر الذاكرة في لحظة خاطفة تتلاشى عندما تصطف النجوم ملتمعات مؤتلقات على صفحة السماء،كأنها عقد زمرد أو لؤلؤ يتوسط جيد كاعب حسناء،…وظلت تلك الأبيات الشعرية التي تصدرت بعض الجدران المقابلة لمراقد المعتمد بن عباد وزوجته اعتماد الرميكية،وابنهما أبي سليمان الربيع الملقب بتاج الدولة، تعبيرا واضحا على الغربة والوحدة في مكان لم يتخيل ابن عباد يوما أن تكون نهاية حياته هناك مع روحه الثانية التي كانت في منتهى الوفاء والإخلاص،وهي تعيش معه أيام الحرمان والتعاسة والشقاء بعد خروجهما من جنة الأندلس،فردوسنا المفقود،في قصة لن ينساها الزمن أبدا،ولن تطويها يد النسيان مطلقا.
ولكن أيمكن أن يكون ابن عباد قد تنبأ بأن قبره سيكون محجا للشعراء،ومزارا لعشاقه ومحبيه ذات يوم؟، أو يمكن أن يتخيل بأن السقيا ستكون شعرا متدفقا،وفنا راقيا،وإبداعا بشتى التلوينات والتموجات؟
سواء أكان ابن عباد قد تنبأ أو لم يتنبأ،أو تخيل أو لم يتخيل،فإن التاريخ سجل وسيسجل بأن المعتمد لم يمت،ولم يعد غريبا في أغمات بعد تلك الزيارات الشعرية لمرقده وضريحه، كانت آخرها حتى كتابة هذه السطور زيارة دار الشعر بمراكش لأغمات ،حيث تم التركيز بإمعان على الأبيات الشعرية التي مطلعها:
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي
حقا ظفرت بأشلاء ابن عباد
بالحلم بالعلم بالنعمى إذ اتصلت
بالخصب ان أجدبوا بالري للصادي
بالخصب جاء شعراء الهايكو،وجاءت القصائد محملة بأنواع بالجناس والاستعارات والتشبية والكناية والطباق،وكل الصور الفنية التي ترجمتها الريشة والألوان والخطوط التعبيرية، بمكان غير بعيد من ضريح المعتمد ابن عباد،مكان ذي حديقة مخضرة غناء، وباحة كبيرة مسقفة، على جدرانها لوحات فنية رائعة للرسام التشكيلي فوزي البصري،تحكي سيرة آل عباد، ونعيم الحياة في القصور ،وقصة العشق الكبير بين زوجين شاعرين،عرفا كيف يسكنان إلى بعضهما وقت الشدة والمحبة في أبهى صور العشق والوفاء والحب الكبير،وحكت قصة الأشواق للشاعر عبد الرفيع الجواهري بصوت متناغم عذب على أوتار آلة العود، للموسيقي خالد بداوي،وهو يعيد إلى أذهاننا صوت المرحوم المطرب محمد الحياني بجماليته العذبة وأدائه الرخيم، سحرا آخر جمع بين الشعر والموسيقى والرسم في توليفة بديعة راقية، راقصتها لحظة موسيقية أخرى بعنوان (سحر الاندلس) من توقيع خالد بداوي الذي يعتبر وفيا إلى حد العشق لعوده الذي يحضنه بوقار وحنان ،ويعامله بمنتهى الوداعة والحب والتشبث،وهي يحيي اماسيه ولياليه الموسيقية في العديد من الأمكنة بمراكش وخارجها،وما وراء البحرين …
انساب شعر الهايكو في ذلك المساء دفاقا،وانسابت معه الأرواح متلهفة للمزيد من الشعر،للمزيد من السحر والجمال،للمزيد من المعاني الإنسانية والاجتماعية والفلسفية، في قالب تعبيري يجعلك تشتاق للآتي، وأنت لم تستفق بعد من الحلم الجميل ،والخيال الآسر الذي حملتك إليه قصائد شاعر التخوم نور الدين ضرار،وبدائع الشاعرة لبنى منان،وزجليات المجدوب بالزين سعيد جيداوي،بعد توطئة شهية جذابة لمدير دار الشعر، الشاعر عبد الحق المفراني الذي يعرف كيف يعزف على نغمات الحروف في شاعرية مبهرة، وكأني به يحن إلى الشعر،كل الشعر ،فصيحا عموديا،وزجلا أصيلا،وتفعيلة،ونثرا،وهايكو خفيفا مثقلا في نفس الآن بالرموز والدلالات، وهذا التحليق في سماوات الإبداع المتنوع الأزمنة والأمكنة،يجعل عشاق الشعر من كل الأطياف،وبمختلف الأعمار، ينتظرون بلهفة قوية، وشغف شديد متى تفتح الدار نافذة جديدة، ليتسنى لهم التحليق من خلالها نحو عالم الشعر الذي يدفئ،وينعش القلب والفؤاد، وهذه حكاية أخرى كان أبطالها عشاق الشعر وهم يتهامسون داخل الحافلات الثلاثة، التي كانت تشق سكون ما بين أغمات ومراكش الحمراء،وتغازل في صمت خفي تلك الصفصافات الممتدة على طول الطريق.