الثورة المضادة
ذ.عبد المولى المروري
لقد بدا واضحا أن الثورة المضادة عادت بقوة للأخذ بزمام الوضع السياسي والأمني في كل الدول العربية التي عرفت ظاهرة الربيع العربي، بل إن آخر الدولتين الملتحقتين بالثورات العربية ( الجزائر والسودان ) تعرفان حالة من التيه والتخبط بعد تدخل الجيش المباشر من أجل الالتفاف على الثورتين وفرض واقع سياسي وأمني جديد / قديم .
لا يجب أن نخفي أن هذه الانتكاسات السياسية والتراجعات الحقوقية والعودة الأمنية القوية في بعض الدول ( مصر )، والآخذة في الاستقواء ( المغرب وتونس )، والحروب الأهلية المدمرة في ليبيا واليمن وسوريا .. تتحمل فيها المسؤولية الشعوب العربية إلى جانب القوى السياسية والمدنية الحية بنسب متفاوتة؛ فإذا كانت الأحزاب السياسية قد ارتكبت أخطاء استراتيجية وتكتيكية في طريقة التعامل مع مخرجات الثورات والاستحقاقات السياسية المترتبة عنها والمواكبة لها، إضافة إلى كثافة وحجم الوعود المقدمة إلى تلك الشعوب.. فإن أهم خطإ ارتكب – في نظري – من طرف القوى السياسية التي استفادت سياسيا ( بشكل مؤقت ) من هذه الثورات هو سوء تقديرها لثلاث أمور مهمة :
* مستوى وعي ونضج الشارع العربي، ومستوى ولائه وتشبته بشاعرات وأهداف الثورات. *سوء تقدير توغل وتغول الدولة العميقة في كيان ومؤسسات هذه الدول، ومدى قدرتها على الرجوع بأشكال أخرى. *الاستهانة بالتدخل الخارجي ( العربي والغربي )، وقدرته على التأثير في الداخل بتوظيفه لعملائه ضد هذه الثورات وأهدافها ونتائجها.
إن الثورات العربية لم تكن نتاج تدبير وتخطيط معقلن ومحكم لقوى سياسية ومدنية معارضة، بل جاء نتيجة تركز الضغط والاحتقان داخل المجتمعات المقهورة، تولد عنه ردات فعل اجتماعية وانفجارات ” ثورية ” بطريقة عفوية وتلقائية، رغم ما واكبها من عمليات تأطير وتنسيق بقيادة شبابها التي غاب عنها الرؤية والأفق. وبالتالي فإن هذه الثورات جاءت قبل أوانها وزمانها الطبيعي، ولذلك لم يكتمل نموها وماتت قبل أوان نضجها، شأنها في ذلك شأن اليرقات التي يراد لها أن تخرج من شرنقتها أو الثمار التي يراد قطفها قبل استكمال نضجها الطبيعي.
إن أهم الأسباب في ” فشل ” الربيع العربي تعود بالأساس إلى عدم نضج ووعي عموم الشعوب العربية التي أساءت إساءة بليغة وجسيمة في طريقة التعامل واستقبال والحفاظ على الثورات ونتائجها، وتعود أسباب ذلك إلى :
1/ الجهل والأمية :
ما تزال معظم شعوب هذه الدول تعرف نسبا عالية من الأمية بجميع أشكالها ومفاهيمها الجديدة، سواء تعلق الأمر بأمية القراءة والكتابة، أو بالأمية الفكرية والثقافية ( بمعنى عدم امتلاك القدرة على الفهم والتحليل والاستنتاج)، أو تعلق الأمر بالأمية التكنولوجية الحديثة؛ فما تزال هذه الشعوب الأضعف على مستوى القراءة والمطالعة والتعامل مع الكتاب والجريدة، والأقل على مستوى الإنتاج الفكري والعلمي، والأضعف على مستوى الترجمة والاستفادة من الإنتاج العالمي في المجالات العلمية والمعرفية..
وكي نفهم هذا البعد جيدا، فيكفي أن نقارن هذه الثورات بمثيلاتها في أوربا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث سبق وواكب هذه الثورات في أوربا نهضة علمية وفكرية وصناعية مهمة غيرت مسار التاريخ العالمي، وشهدت خلال تلك المرحلة الدموية ظهور علماء وفلاسفة ومفكرين ينظرون لعملية التحول النهضوي في أوربا بإسهاماتهم الفكرية والعلمية التي ساهمت بقوة وفعالية في نضج ووعي تلك الشعوب التي استعدت بما يكفي لفرض واقع سياسي جديد عنوانه البارز ؛ الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية..
إن عملية التغيير والإصلاح كي تنتج أثرها الاجتماعي لابد أن يسبقها تأطير فكري وثقافي يقوده العلماء والفلاسفة والمفكرون، الأمر الذي افتقدته الثورات العربية والربيع العربي، فكان تحرك الشباب خال من أي تأطير فكري أو توجيه ثقافي، إنه حراك دون رؤية أو أفق، هذا ما يفسر ضعفه وقصر مدة صموده أمام الثورات المضادة.
إضافة إلى ذلك فإن خطورة الانتشار المهول للأمية وارتفاع منسوب الجهل جعل هذه الشعوب جاهلة لمصلحتها، فاقدة لإرادتها، تعاني من فقدان الذاكرة، وسهلة الانقياد لقوة التدجين والتأثير التي يمارسها عليها الإعلام الفاسد بإيعاز من الدولة العميقة وقادة الثورات المضادة.
2/ ضعف الحس الوطني عند غالبية الشعوب العربية:
على مر العقود الماضية، وبعد حصول مجموع الوطن العربي على ” استقلاله ” ( بطعم التبعية )(1)، وانتصاب حكام جدد على رأس هذه الدول، كان هم الدول الاستعمارية ألا تنهض هذه الشعوب العربية ” المحررة “، ولا تقوم لهم قائمة، ولا يكون لهم موطئ قدم في نهضة أو حضارة أو نصيب من خيرات العالم.. وكان هم الحكام الجدد ( مع استثناءات قليلة ) هو الحفاظ على كرسي الحكم إلى الأبد .. وكسب ولاء الشعوب قهرا وليس اختيارا .. والاستحواذ على خيرات ومقدرات الوطن .. وتركز السلطة والحكم في الشخص الواحد أو الحزب الواحد .. تحت مقولة ” أنا الوطن .. والوطن أنا “.
تحالف موضوعي بين الدول الاستعمارية والأنظمة الاستبدادية على الشعوب العربية من أجل الإبقاء على تخلفها لمصلحة الغرب الاستعماري، والإبقاء على تركيعها لمصلحة النظام الاستبدادي.. هكذا عاش المواطن العربي طيلة عقود .. واقع تورثه أجيال لأجيال..
ففي الوقت التي تزداد فيه الشعوب الغربية حرية وازدهارا وغنى وتقدما .. تزداد الشعوب العربية قمعا واندحارا وفقرا وتخلفا ..
وفي الوقت الذي تتقوى فيه العدالة الاجتماعية .. وتذوب فيه الفوراق الطبقية في الغرب .. يتضاعف فيه الظلم الاجتماعي والفوارق الطبيقية في العالم العربي.. وفي الوقت الذي يستفيد فيه المواطن الغربي من ثروات بلاده.. وتتوزع بالعدل بين كل المواطنين.. تحتكر الثروة القلة العربية الحاكمة وتتكدس عندها .. ويحرم المواطن العربي من نصيبه منها ..
وكلما أراد المواطن العربي المطالبة بتحسين أوضاعه الاجتماعية وتحقيق الحرية والعدالة، إلا ووجد أمامه عصا النظام أو معتقلاته وملاحقاته.. فتزداد معاناته .. من وضع اجتماعي سيء، إلى حرية مقموعة.. إلى خدمات اجتماعية ضغيفة .. إلى أجور هزيلة وضرائب مرتفعة ..
وحتى يتأتى لهذا المواطن المسكين قضاء مآربه ومشاغله فليس أمامه إلا الصمود من أجل ذلك في إطار القيم النضالية السليمة.. وهذا النوع من الندرة ما قد لا تجدهم إلا على هامش الحياة أو في المعتقلات .. وإما أن يلتمس من أجل ذلك أدوات التملق والوصولية والانتهازية والرشاوى وما جاور ذلك من الرذائل الإنسانية والنفاق الاجتماعي.. وهم غالبية الشعب العربي للأسف الشديد..
ثقافة النوع الثاني عمرت لعقود حتى وسمت المجتمع العربي بسمة النفاق الاجتماعي، ليصبح واقعا معترفا به، بل وصل الأمر إلى درجة ترسيمه على مستوى الدولة العميقة..
أمام وضعية التردي الأخلاقي والاجتماعي، أصبح ارتباط المواطن العربي بوطنه يتلاشى، وحبه له يضعف، ولاءه يتناقص.. وأصبح تطلعه نحو مغادرة الوطن رغبة في الخلاص وبحثا عن وضع اجتماعي ومادي أحسن مناه ومبتغاه..
إن هذه الوضعية تترجم حالة الإحباط واليأس التي أصابت المواطن العربي، ولم يعد يثق بكل مبادرات الإصلاح التي خاض غمارها العديد من رواد الإصلاح الذين انتهى ببعضهم إما في السجون أو المنافي، أو في مراكز القرار السياسي بعد تغيير مواقفهم وآرائهم في اتجاه محاباة الأنظمة الاستبدادية الحاكمة.. وبتعبير آخر خانوا قضية الإصلاح .. وخانوا المواطن والوطن ..
لذلك فكل حركات الإصلاح والتغيير لم تعد تهم غالبية الشعوب العربية – في الوقت الراهن – ولم تعد تستهويه تلك الشعارات التي تنادي بتغيير الأنظمة وتحقيق العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة.. وأمامه نماذج حية ودماء لم تجف بعد لضحايا الثورات .. وشباب في غيابات السجون .. فلم يروا من الربيع العربي إلا المعتقلات والمحاكمات والتعذيب والتنكيل .. وأمامه أخرون عرفوا من أي تأكل الكثف، فاصطفوا إلى جانب الثورات المضادة بعد الردة مباشرة، فأصبحوا أبواقها ومطبليها بعد أن كانوا بالأمس القريب إلى جانب شباب الربيع العربي.
لقد قتلوا في المواطن العربي الحس الوطني، وحب الوطن والتضحية من أجل الوطن، واغتالوا فيه أي رغبة في الإصلاح والتغيير .. وأفهموه بأن الوضع الحالي أحسن وأهون من أي حلم حارق مكلف بوضع أحسن قد تراق فيه الدماء وتمتلء بسببه السجون والمعتقلات ..
وهذا ما يفسر عدم استعداد الشارع العربي خلال العشر سنوات المقبلة لخوض أي مبادرة إصلاح جديدة مماثلة للربيع العربي السابق .. إلا بعد توافر شروط ضرورية على رأسها ثورة فكرية وثقافية وعلمية يقودها جيل جديد، تكون ممهدة لثورة عامة ..
يتبع في الجزء الثالث : نحو ثورة علمية وفكرية