الرائدة في صحافة الموبايل

صعاليك الصحافة في زمن كورونا

ذ. عبد المولى الماروري

وأنا أتجول في كتاب “وحي القلم” لكاتبه النابغة مصطفى صادق الرافعي، وأقلب صفحاته، وأتلذذ عذوبة كلامه وبلاغة تعبيره وسمو أفكاره، وقفت عند موضوع من أربع حلقات تحت عنوان “صعاليك الصحافة”. عنوان شد انتباهي كثيرا، وحرك في عقلي كل أجهزة الفضول والتشويق، وبعد خضوعي إلى جبروت العنوان، أبحرت في مياه كلامه العذب الزلال، ومعانيه العميقة وأساليبه الأنيقة.. فوقفت عند حقيقة غريبة، وكأني بالرافعي يعيش بيننا ويرى أحوالنا وأحوال الصحافة وأهوال بعض الصحافيين بالمغرب.

يقول الرافعي رحمه الله: “وللصحافة العربية شأن عجيب، فهي كلما تمت نقصت، وكلما نقصت تمت”. ويقول في موطن آخر:” ولا يقتل النبوغ شيء كالعمل في هذه الصحافة بطريقتها، فإن أساس النبوغ (ما يجب كما يجب)، ودأبه العمق والتغلغل في أسرار الأشياء وإخراج الثمرة الصغيرة من مثل الجشرة الكبيرة بعمل طويل دقيق، أما هي فأساسها (ما يمكن كما يمكن) ودأبها السرعة والتصفح والإلمام وصناعة كصناعة العنوان لا غير”.

وختم الرافعي بالقول على لسان محاوره: إنهم يريدون (بعض الصحافيين) إظهار المخازي مكتوبة، كحوادث الفجور والسرقة والقتل والعشق وغيرها، يزعمون أنها أخبار تروى وتقص للحكاية أو العبرة، والحقيقة أنها أخبارهم إلى أعصاب القراء”. أليس هذا شبيها مما نعاني من ويلات هذا الجنس من الصحافة، هذا الجنس الذي يعرف تشوها فكريا وإعلاميا، ولد هجينا من رحم مقطوعة، ورضع لبنا زانخا. 

هكذا حال بعض الصحافيين بالمغرب، يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس البقرة الأرض بلسانها، حرفتهم الكذب، وهوايتهم البهتان، مطعمهم من أعراض الناس، ألا يعلمون أن له طعم الزقوم، يتفكهون بالإفك، ألا يعلمون أن له لذة الغسلين، ويرتوون بالفضيحة والتشهير، ألا يعلمون أنه ماء من حميم.

 أكثر ما في بعض الجرائد والمواقع حشرات من الألفاظ، تنقل الضرر والعدوى، يجمعون في مقالاتهم شتى أنواع القمل والبراغيث، وكما جاء على لسان الرافعي: “فإن كثيرا من الصحف لو مسخه الله شيئا غير الحروف المطبعية، لطار كله ذباب على وجوه القراء”، تلقي ونيمها على من يصدقون كذبها وبهتانها وإفكها من أشباه القراء الذين تلبستهم البلادة، ومسختهم السخافة، يصدقون الكذب مهما كان فجا قبيحا أخرقا، ويتبعون كل ناعق مهما علاه السفه أو وشم كلامه بالدجل، مريدي الصحافة الرخيصة واللغة الرخيصة والقراءة الرخيصة.

أما القارئ الحصيف الفطن فعنده دين يرشده وعقل يسدده أو حياء يقناه، يتخير لعقله من الصحافة أنظفها، ومن المواضع أنفعها، ومن الكلمات أطيبها، يميز بين غث الصحافة وسمينها، لا يسعى إلا وراء الخبر الصادق والمعلومة القيمة والفكرة النيرة، فكما هذا النوع من الصحافة قليل ونادر، فإن قارئها قليل ونادر.

والصحافي النظيف حاله بين خمس: نظير يحسده، أو منافق يبغضه، أو عدو يحاربه، أو تهديد يرعبه، أو إغراء يفتنه.

والصحافي السخيف (الصعلوك) حاله أيضا بين خمس: جهل يشمله، وحقد يسكنه، وشهوة تفتنه، وحقيقة ترعبه.

اشتد رزء هذا الجنس من هؤلاء الصحافيين مع جائحة كورونا، فكانت الجائحة جائحتين، والوباء وبائين، وعظمت الفاجعة بهم واستفحلت الكارثة بوجودهم.

ففي الوقت الذي أجمع الناس ـ في ظل الوباء ـ على جمع الشمل الوطني، والحرص على التضامن، وإشاعة لغة السلام وخطاب التسامح وتجاوز الخلافات وطمر الأحقاد، تجد صعاليك الصحافة والعياذ بالله يزرعون الضغينة ويبثون الحقد ويوزعون الكراهية بين الناس بدل الحب والرحمة.

يقفون في وجه أي خير أو معروف، ويعبدون الطريق لكل شر وضرر، يكرهون العفو والصفح للناس، ويهيمون حبا وعشقا لكل أذية أو إساءة أو ملمة تصيب خصومهم. قلوبهم عن الرحمة مقطوعة، ونفوسهم عن الحلم منزوعة، ومشاعرهم من الغلظة مصنوعة. 

 تراهم يتصيدون كل صغيرة، لا يفوتونها ولو كانت في حجم النقير أو القطمير، فيشهرون بها ويفضحون ضحاياهم بغير ذنب أو جريرة، طعامهم لحوم الناس، وشرابهم دماء الأبرياء، أسن ماءهم، وخم لحمهم، في كلامهم رائحة الصنان (بضم الصاد)، هم نائبة الصحافة ونكبة الأعلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد