في نقد العدالة المطلقة: كارل بوبر أنموذجا
ياسين شكور
تسعى هذه الورقة إلى فهم الغرض الذي من أجله وجدت كل سُلطة سياسية، والغاية التي ينشدها الفرد من الدّولة، لأن تدبير، أو سياسة، شيء ما، تعني قيادته من أجل بلوغ هذه الغاية. وذلك من خلال فلسفة كارل بوبر، Karl Popper(1992-1994) الذي عُدّ بحق من أهم فلاسفة العقلانية النقدية، إذ لم يتردد أبدا في إعلان وثوقه بقدرة العقل على الفحص، والنقد. لهذا يؤكد بوبر، باستمرار، على أهمية النقد لتحرير مُستقبل الإنسان، ومستقبل العلم من الخرافات العالقة به.
قدم كارل بوبر معيار علمي لحل المشكلات ذات الخلفية الإبستيمولوجية والسياسية، وعُرف، أيضا، بموقفه النقدي إزاء كثير من الأفكار والنظريات، ومن بينها؛ “نظرية العدالة عند أفلاطون” Platon (427 – 347 ق.م)، فقد كان بوبر من أشد منتقديها، حيث عدّها خطرا يُهدد المجتمع، وأنها نظرية استبدادية لا طائل منها، ومتينة لأصحاب الممارسة الشمولية؛ الذين يتطلعون إلى تأسيس أنظمة استبدادية تُخلف العنف والدمار. بهذا المعنى أضحت العدالة لدى أفلاطون موضوع نقد واسع من طرف كارل بوبر.
تتجلى أهمية الموضوع في راهنية الأسئلة التي يطرحها، والحاجة إلى التفكير فيها داخل السياق العربي الإسلامي عامة والمغربي بصفة خاصّة؛ من أجل فهم العدالة الإنسانية، وآليات اشتغال النظم السياسية، كمدخل لكل حركة واعية تنشد تحقيق الحرية، الديمقراطية والتعددية السياسية.
النقد المعرفي للعدالة الأفلاطونية عند بوبر
يلاحظ المُتأمل في التصورات الفكرية التي أنتجتها البشرية سعيا دائما إلى تحقيق الأمن والوحدة للجماعة الفاضلة. ولا تحقق هذا المبتغى إلاّ إذا فكرت وخططت لنظام سياسي، يسعى إلى إقامة قوانين توفر السعادة للبشرية برمتها. لكن يقع ما لا يُتوقع في الحسبان، حيث أنّ هذه الرُؤى المتطلعة نحو الخير العام للإنسانية تعمل ضد مسعاها؛ ولعل “نيتشه”، Friedrich Nietzsche (1844 – 1900)، كان على صواب حين قال:” لقد اقترب الزمن الذي سيكون فيه الصراع من أجل السيطرة على الأرض، باسم المذاهب الفلسفية الأساسية”. وهو ما حدث في الواقع، إذ أن شر الشرور في القرن العشرين هو ظاهرة الشمولية، التي برزت كظلام مُروع سرى في العالم، بحيث مارست التقتيل باسم المستقبل الزاهر، وأكدّت على أنها الخير والعدل المُطلق، في حين أنها الشر الذي تجسد. فضلا عن أن الخير والجمال والعدل المطلق، غير موجودين مُطلقا، ما جعل أحسن النوايا تؤدي إلى أخطر حمَّامات الدم.
ارتمى البشر، تحت ظل هذا الطغيان، في أحضان العدمية؛ حيث لا جواب عن اللِّماذا، فانزاح الإنسان نحو العيش في تجربة العبث. ولقد ظهرت هذه التجربة في شكل قَلَقٍ، وضيق، وحصر (Angoisse) عند هايدِغر، Martin Heidegger (1889- 1976)، وفي الشعور المرير بانعدام وجود أية غاية للعيش والوجود عند سارتر،Jean Paul Sartre (1905- 1980)، وفي غموض وضعنا الإنساني وعبثيته عند كامو، Camus (1913- 1960)، وفي الشعور بالفشل والإحباط المحتوم عند ياسبرس ، Karl Jaspers.
وقد ذهب كلوكسمان، André Glucksmann (1937- 2015)، إلى اعتبار الشمولية هي مجموع وقائع مُستنبطة من أساتذة الفكر، ومن ثم تُعدُ ابناً شرعياً للحداثة (كما أنها غير قابلة للإفناء لأن شروطها الفكرية لازالت قائمة)، بالخصوص من فكر ماركس، Karl Marx (1818- 1883). لكن عندما بحث كارل بوبر عن أسس الشمولية في النص الفلسفي، وجد أصلها في المتن السياسي عند أفلاطون؛ حيث استطاع هذا الرجل أن يُؤسس نظرية للعدالة، تُماثل العدالة الشمولية الحديثة ( كما تظهر في الفاشية، والنازية، والشيوعية) ، التي تقوم على العنف والدمار.
حاول بوبر فحص، ونقد، العدالة الأفلاطونية، وبالتالي أكد على أن أفلاطون من الأوائل الذين مهّدوا السبيل نحو بناء المجتمع الشمولي (المغلق)؛ وهو مُجتمع يخشى من الفكر المُستقل عنه، لذا نجده يدمر العقل الإنساني المختلف. هكذا يعتبر بوبر أن الخوف من النقد للقيم السائدة داخله، والتشجيع على مساندتها؛ يشكل خطراً دائم على الشعوب والحضارات.
يجزم بوبر في جعل برنامج أفلاطون السياسي استبداديًا، ومطابقًا للنزعة الشمولية؛ لأنّه تصور يُؤسس العدالة على الفصل بين الطبقات الثلاث (الحكام، الحراس، الصناع)، ليقوم كل فرد بعمله الخاص بطبيعته، وإن حدث تداخل بين هذه الطبقات تنهار الدولة. علاوة على ذلك، فإنّ معنى العدالة عند أفلاطون، يُؤدي إلى نقيضه؛ حيث تُشجع، وتُقوي، الطبقة الحاكمة على الاستبداد باسم العدالة، وهو ما يجعلها تنحاز عن معناها لدى الإنسانيين، التي تهتم بتساوي المواطنين أمام القانون، دون انحياز إلى فرد أو طبقة مُحددة.
وعليه، تتأسس العدالة الإنسانية، في نظر بوبر، على ثلاث مبادئ أساسية: أولا، مبدأ المساواة؛ الذي يؤكد على نفي الامتيازات الطبيعية. ثانيا، مبدأ الفردانية Individualisme))، ثالثا، مبدأ الحماية؛ المُحصن لحرية الفرد. وفي المقابل تقوم العدالة الأفلاطونية على ثلاث مبادئ مُخالفة لمبادئ العدالة الإنسانية، وهي كالتالي: أولا، مبدأ نفي المساواة؛ القائم على الامتياز الطبيعي، ثانيا، مبدأ الجماعية (Collectivisme)؛ الذي يرتكز على إقصاء الفرد من القضايا السياسية، ثالثا، مبدأ الحماية؛ وهو مبدأ يحمي قوة الدولة.
1. العدالة في أفق المساواة
يكن أفلاطون عداء شديدا لمبدإ المساواة؛ حيث آمن بها في مجال الطبيعة، التي توجد في بيولوجية الإنسان. غير إنّ المساواة الطبيعية لم يلتفت لها دعاة المساواة الإنسانية، بل ربط أحدهم دعاوى قوانين المساواة والمساواة الطبيعية معا؛ فهذا برقليس Bériclès، قد صاغ مبدأ المُساواة، قبل مولد أفلاطون بسنوات قليلة، بصورة تدعو إلى الإعجاب، بقوله:” إنّ أساس دستورنا هو مساواة المولد؛ بحيث كلنا إخوة بانتمائنا إلى أم واحدة، لهذا وجب أن نكافح عن المساواة أمام القانون”.
Pour ceux qui n’ont pas les mêmes titres, l’égalité peut devenir inégalité.
والواقع إنّ أفلاطون هدّم المساواة، في محاورة القوانين، حين أكّد على أن المساواة لغير المتساويين، تؤدي إلى الظلم. وهو اعتراض معياري، ينفي المساواة بِحُجّة استحالة تساوي البشر، لأنهم غير مُتساويين، ولا يمكنهم أن يكونوا كذلك. بهذا المعنى، عارض أفلاطون الديمقراطية، بلا إنصاف، لأنها توزع المساواة على المتساويين وغير المتساويين، بالمثل. وسعى أيضا إلى بناء مبدإ الامتياز الطبيعي، العنصري، حتّى يضع الفرد في مكانه الطبيعي، ليحقق، بذلك، العدالة، إذ يَعتبر امتياز الطبقة عدلاً. لكن تعني العدالة عدم وجود مثل هذا الامتياز الاستبدادي.
2. العدالة في أفق الفردانية
قضى أفلاطون على مبدإ الفردانية؛ الذي يتطابق، في رأيه، مع الأنانيةÉgoïsme (حب الذات)، ومن ثم يتنافى مع الغيرية L’altruisme. إذ يتعين على الإنسان أن يكون شيوعياً، وإلاّ كان حيواناً أنانياً، والحال أنّ مبدأ الفردانية، المُضاد للجمعية، يهدف إلى خدمة الآخرين؛ لأنّه يرتبط بالغيرية. هكذا أحدث أفلاطون (والأفلاطونيين) أزمة أخلاقية جسيمة، مُستمرة إلى اليوم.
والحق أن هجوم أفلاطون على النزعة الفردية هو أمر مفكر فيه، حتّى يخدم الفرد مصالح الكل (الدولة)؛ يقول أفلاطون، مخاطباً الفرد:” يُوجد الجزء من أجل الكل ولكن لا يوجد الكل من أجل الجزء، إنك خُلقت من أجل الكل ولم يُخلق الكل من أجلك”. لهذا كان يعي أفلاطون الدور الخطير الذي يلعبه الفرد، إذ تعتبر الفردانية هي الثورة الروحية وراء انهيار القبيلة (الجمعية) وإلى نشأة الديمقراطية، التي كرهها أفلاطون فاستئصلها من حياة الفرد؛ عبر إخضاعه إلى قائد يوجه سبيله (حتى في مأكله وشربه…إلخ)، وينفي طريقه الخاص، من أجل أن يتحكم في طبيعته. وقد وضح أفلاطون ذلك حين أكد بقوله:” إنّ الدّولة لا تُثمر رجالاً بغرض تركهم أحرارا، يمضي كل منهم في طريقه الخاص”. يُشرِّع أفلاطون إذن، من منظور ما هو أفضل للدولة ككل، ويضع مصالح الفرد في مستوى أقل قيمة.
هكذا رأى أفلاطون في النزعة الفردية العدو الذي يغير مدينته الطائفية، فأكد على أن المبدأ الأعظم، بالنسبة إلى الجميع، هو أن يحيا بقائد يقتفي أثره، ويتبعه بإخلاص، حتى في أتفه الأمور، بل أكثر من ذلك، على الفرد تربية نفسه بمران طويل، و أن لاّ يحلم أبدا إلى الإتيان بفعل مُستقل عن الدولة، وكل أثر للفوضى وجب قطعه ـ بلا رحمة ـ من حياة البشر جمعاء.
وعليه، أسّس أفلاطون نظام الشيوعية؛ لكي تختفي معها فردية الإنسان وخصوصياته، وتتلاشى كذلك الأشياء التي هي بطبيعتها خاصة به (كالأعين، والآذان، والأيدي، الخ)، ليشترك الناس في النظر، والاستماع، والتصرف؛ بحيث يُعبر، ويَشعر، جميعهم بنفس الأحاسيس. وليس هناك دولة، في رأي أفلاطون، أسمى فضيلة من هذه الدولة الشيوعية. وتبعا لذلك، تنهار الأخلاق الأفلاطونية؛ بحيث أصبح معيارها يصُب في مصلحة الدولة، ودون هذا الإطار تنتفي أخلاقيتها، وبالتالي، هي أخلاق نفعية استبدادية، تسعى إلى تقوية الدّولة، وإلغاء الفرد، ومن ثم فهي أخلاق المجتمع المغلق، لأنّها ليست أنانية فردية، وإنما هي أنانية جماعية.
3. الإيديولوجيا الفاسدة ودورها في تحقيق العدالة المطلقة
أ. الخِداع والتضليل باسم العدالة
دعا أفلاطون إلى تأكيد أساس عدالته (المتمثل في تأدية كل فرد وظيفته الطبيعية) عن طريق أكذوبة احتيالية، تتجسد في خرافة المعادن، لكي يمارس الحكام بها خداع الآخرين.
« Si le gouverneur à mentir un citoyen, il le punira comme introduisant une pratique propre à renverser et à perdre le vaisseau de l’État. ».
كما أقر على أن ممارسة الخداع امتياز طبقي، ولا ينبغي لأي شخص المَساس به، ومن ثم يسعى أفلاطون، بموجبه، نحو ضمان المصلحة العامة. والحق إن تضليله ذاك، يشبه الدواء القوي الذي يقدمه الطبيب، حتّى ينقد الجسد المريض للمجتمع. وهو مبدأ مُستبد؛ خلقه أفلاطون لكي يُخالف الاتجاهات الإنسانية، والديمقراطية في عصره، فضلا عن استكمال خطته الساعية إلى بناء مدينة شمولية، تُحقق له الثبات المُقدس.
ب. التعذيب والقتل باسم الدين
تُماثل المدينة الأفلاطونية، حسب بوبر، المدينة التي وصفها الشاعر كريتياس (Critias)، عند مدحه للرجل البارع؛ الذي ابتدع الدين من أجل إقناع الناس على طاعته. الأمر نفسه مع أفلاطون حين قال:” إنّ تنصيب الطُقوس والآلهة، يُعد مادة خصبة لمفكر عظيم”. لهذا يُعاقب أفلاطون، الأفراد الذين تنحرف أرائهم عن آلهة الدولة، فضلا عن قتلهم بتهمة الكُفر، إنْ هم كرروا الإساءة. وهي التهمة نفسها التي سقط أستاذه ضحيتها. وبالتالي يهدف أفلاطون من ذلك، الحفاظ على الثبات المُقدس، ونفي التغير الفاسد.
ج. التربية والتعليم ووظيفتهما السياسية
تستمر الدولة في وجودها، حسب أفلاطون، طالما لم يحدث انشقاق داخل الطبقة المُسيطرة. لذلك جعل أفلاطون من تربية الطبقة الحاكمة، هي الوظيفة الحافظة لبقاء، وتقوية، الدّولة. لذا ألحَّ أفلاطون على ضرورة أن يُصبح الفيلسوف مُديراً للتربية، من أجل توفير نظام تعليمي يُنتج فلاسفة جُدد. والهدف من هذه التربية الفلسفية، هو تقوية سلطة الحكام ليتم عزلهم عن المحكومين؛ لأنهم يتصلون بعالم آخر سماوي، شأنهم شأن الكهنة القبليين الذين يعالجون المرضى بالسحر. لذا يستحق الفلاسفة الحكم على الدوام، وبالتالي، يُصدر أفلاطون مرسوما، مفاده اصطناع الحكام نظام عبقري للاقتراع، من أجل السيطرة على المُساعدين الشُبان، وحتّى يُلقي الأشخاص الذين لم يحالفهم الحظ، تبعة ذلك، على حظهم السيّئ، وليس على الحُكام الذين يتحكمون، بسرية تامة، في عملية الاقتراع.
هكذا إذن، نعي الوظيفة السياسية المحضة لهذه التربية الفلسفية لدى أفلاطون (وهي الوظيفة نفسها في عصر بوبر). والحق إنّ هدف أفلاطون، من التعليم الفلسفي، هو القضاء على الفكر المُستقل عن الدّولة، ما أدّى إلى إضعاف الفرد. ولسوف يكون هذا مُختلفا، لو كان لدى تربية أفلاطون هدف فرداني، من خلال تنمية المؤهلات الفلسفية عند الفرد.
على أية حال، لم يُحقق أفلاطون مطلبه الرّهيب، الذي كونه وفقاً لتصوره الشخصي. غير إن فكرة الملك الفيلسوف، أضعفت الإنسان بجعله يُفكر بطريقة مُغلقة، وهي بذلك، تنحدر عن عالم العقل والصدق. كما أفرزت العدالة عند أفلاطون أزمة أخلاقية جسيمة، لا زالت مُستمرة إلى الوقت الراهن، وخلقت مشكل استحقاق الحكم، وهو مُشكلٌ مُؤسساتي يضرب في قلب النظرية السياسية. وعليه، فإن نقد بوبر للعدالة الأفلاطونية هو تعليل لليبرالية ضد الشمولية، وهما نظامين مُتناقضين من الناحية السياسية، والاقتصادية، والفلسفية؛ فضلا عن أنه دفاع عن التغير الاجتماعي ضد الثبات، من أجل الاعتراف بهذا التغير دون منعه، فكما أن المعرفة تنمو وتتقدم من خلال المُحاولة والخطأ، كذلك يخضع المجتمع إلى مبدإ التغير.
المصادر والمراجع
الكتب باللغة الفرنسية؛
Platon, La République, Traduction nouvelle, avec introduction et notes par Robert Baccou, Librairie Garnier Frères, 6, Rue Des Saints-pères, 6, Paris.
Karl Popper, La Société Ouverte Et Ses Ennemies, Tome1, L’ascendant de Platon, Traduit de l’anglais par Jacqueline Bernard et Philippe Monod, Edition du Seuil, Paris 1979.
الكتب باللغة العربية؛
أفلاطون، جمهورية أفلاطون، دراسة وترجمة د. فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 2004 م.
كارل بوبر، المجتمع المفتوح وأعداؤه، ترجمة؛ السيد نفادي، التنوير للطباعة والنشر(لبنان، بيروت)، الجزء الأول، (ط1)، 2014 م.
سارتون جورج، تاريخ العلم، العلم القديم في العصر الذهبي لليونان، الجزء الثالث القرن الرابع ق،م. ترجمة، نخبة. القاهرة؛ المركز القومي للترجمة 2010 م.
كارل بوبر، درس القرن العشرين، تر: الزواوي بغورة، ولخضر مذبوح، الدار العربية للعلوم، الجزائر، ط1، (1429 هجرية – 2008 ميلادية).
محمد الشيخ، المثقّفُ والسّلطة، دراسة في الفكر الفلسفي الفرنسي المعاصر، دار الطليعة (بيروت)، تقديم: سالم يفوت، الطبعة الأولى 1991.
روجيه – بول دروا، أساطين الفكر، عشرون فيلسوفاُ صنعوا القرن العشرين، ترجمة، علي نجيب إبراهيم، دار الكتاب العربي (بيروت- لبنان)، 2012.