“روح الثقافات” بالصويرة.. موعد سنوي يجدد الالتزام بالحوار والتعايش بين الأديان والثقافات
دنا بريس – نادية الصبار
لم يكن إسدال الستار على النسخة الثالثة من مهرجان “روح الثقافات” مجرد ختام لفعالية ثقافية، ولم تكن الصويرة مجرد مدينة تحتضن مهرجانا ثقافيا؛ بل فضاء نابضًا بالحوار والتعايش والسلام في أسمى تجلياته، من خلال “مهرجان “روح الثقافات” في نسخته الثالثة، الموعد السنوي الذي يحتفي بالتنوع الثقافي ويؤكد أهمية تعزيز الحوار بين الأديان في زمن باتت فيه الحاجة ملحة إلى التعايش والسلم والسلام.
فعلى مدى ثلاثة أيام، تحولت مدينة الرياح “الصويرة /موكادور؛ إلى ملتقى فريد من نوعه جمع بين الدبلوماسيين والمثقفين ورجال الدين والتصوف، والصناع الحرفيين والفنيين والموسيقيين من مختلف الديانات والثقافات، في مشهد يعكس الإرث الروحي المشترك للديانات التوحيدية الثلاث، ويؤكد أن المدينة ليست فضاءً للاحتفال، بل منصة للتفكير العميق في قضايا الإنسانية.
انطلاق مهرجان “روح الثقافات” بالصويرة.. احتفاء بالتنوع وحوار مفتوح بين الأديان
كانت الصويرة يوم الجمعة الموافق ل21 فبراير الجاري على موعد مع النسخة الثالثة من مهرجان “روح الثقافات” للاحتفاء بالتنوع الثقافي وتعزيز الحوار بين الأديان، تحت شعار “روحانياتنا في تقاسم: بين الأخلاق والجمال”، والذي نظم بشراكة بين جمعية شباب الفن الأصيل للسماع والتراث والزاوية القادرية بالصويرة، وبشراكة وتعاون مع مؤسسة الثقافات الثلاث للبحر الأبيض المتوسط، ومؤسسة ماتشادو بإشبيلية، مما يعزز البعد الدولي للمهرجان.
عرف “روح الثقافات” كالعادة، الحضور القوي لمستشار جلالة الملك والرئيس المؤسس لجمعية الصويرة موغادور، أندري أزولاي، وعدد من الشخصيات السياسية والدبلوماسية البارزة، وباحثون وأكاديميون ونشطاء مدنيون، ورجالات دين وتصوف وكذا إعلاميون بارزون، ليتحول المهرجان إلى منصة مفتوحة لمناقشة قضايا التسامح والعيش المشترك، وهي القيم التي لطالما شكلت جوهر مدينة الرياح، وجعلت منها رمزًا للتلاقح الثقافي والتعايش السلمي.
حوار مفتوح بين “أبناء إبراهيم”.. أصوات متحدة من أجل السلام
في رحاب بيت الذاكرة، الفضاء التاريخي الذي يعكس التعددية الدينية للمدينة، افتُتحت الفعاليات بجلسة حوارية تحت عنوان “أبناء إبراهيم الثلاثة: أصوات متحدة من أجل السلام”. شارك فيها نخبة من الشخصيات المؤثرة في مجال الحوار بين الأديان، من بينهم علي الحواجي، كبير مرشدي الخدمة الدينية الإسلامية بوزارة الدفاع الهولندية، ومريم عطية، الخبيرة في الثقافات وتنظيم الحوارات بفنلندا، وخوسيه أنطونيو غونزاليز كخيا، عميد أخوية كارابيا بإشبيلية.
تبادل المتحدثون رؤاهم حول أهمية بناء جسور التفاهم، مستندين إلى المبادئ المؤسسة للأديان التوحيدية الثلاثة، حيث برزت القيم المشتركة كالعدالة والرأفة والأخوة كركائز أساسية يمكن أن تسهم في بناء عالم أكثر انسجامًا. واتفق الجميع على ضرورة تعزيز المبادرات التي تقرّب بين الشعوب، مشيدين بالدور الفريد الذي تلعبه الصويرة كمدينة حاضنة لهذا التنوع الروحي والثقافي.
الصوفية.. جسر روحي بين الثقافات
وشملت النقاشات والحوارات الروابط الروحية العميقة التي تتجاوز الحدود الثقافية، من خلال ندوتين حملتا عنوان “الجسر الصوفي: التقاليد الروحية والتجارب الصوفية المشتركة” و”تعدد الثقافات الديني: تقاليد مقدسة وذوبانية مشتركة”. ألقى خلالهما أكاديميون وباحثون وفنانون مغاربة وأجانب الضوء على الأثر العابر للحدود للصوفية، باعتبارها قوة روحانية تساهم في تحقيق التوازن بين الإنسان والعالم.
فيما شدد هشام دينار مؤسس ومدير المهرجان، على أهمية هذا الحدث، الذي أصبح محطة سنوية أساسية ضمن الأجندة الثقافية لمدينة الرياح، وفضاء يعزز التقارب الثقافي والحوار الفكري. مؤكدا أن الصويرة، بغناها التراثي وتنوعها الثقافي، كانت وستظل نموذجًا حقيقيًا للمدينة التي تجمع بين الدينات الثلاث والتقاليد المختلفة في انسجام تام.
المدينة العتيقة.. منصة مفتوحة للفن والروحانية
لم يقتصر الحدث على النقاشات الفكرية، بل امتد إلى شوارع المدينة، حيث شهد اليوم الأول استعراضًا صوفيًا جاب أزقة الصويرة العتيقة، بمشاركة فرق صوفية من مختلف الزوايا، إلى جانب فرقة “جي فيردياليس سانتو بيطار” من مالقة الإسبانية، التي أضفت لمسة أندلسية على المشهد.
وفي فضاء “دار الصويري”، قدمت الفرق الصوفية المحلية من قبيل حمادشة، عيساوة، أحواش، وكناوة.. حفلًا موسيقيًا استثنائيًا، جمع بين الألوان الصوفية المختلفة، مؤكدًا على غنى وتنوع التراث الموسيقي الصويري. ليكون مسك الختام في ليلته الأولى “أمسية صوفية برحاب الزاوية القادرية بالصويرة، حيث تعالت أصوات الذكر والسماع والمديح في لحظة روحية أحياها منشدون من مختلف مدن المغرب، والتي استاثرت بقلوب الجميع ومن الديانات الثلاث.
أما العروض الفنية والموسيقية، التي احتضنتها كل من دار الصويري أو المركب الثقافي بالصويرة، فقد تجاوزت كونها مجرد وصلات إبداعية، لتصبح ترجمة حية لقوة الفن في التقريب بين الثقافات، حيث توحدت أصوات التقاليد الصوفية الإسلامية واليهودية والمسيحية في لغة موسيقية واحدة، حملت روحانية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين.
رسالة “قوية” وحوار مستمر
لفت أندري أزولاي، مستشار جلالة الملك والرئيس المؤسس لجمعية الصويرة موكادور الانتباه إلى ما هو أبعد، ففي زمنٍ تتسع فيه الفجوات وتتفاقم التوترات، تظل الصويرة نموذجًا للصمود أمام تيارات الانقسام والتطرف.
وشدد أندري أزولاي في كلمته، على أن هذا الحدث يتجاوز كونه مجرد لقاء ثقافي، ليشكل تجسيدًا لقوة الصمود ورسالة واضحة في زمن يسوده التوتر والانقسام والتطرف، مؤكدًا: “نحن هنا لنختار الحوار بدل القطيعة، والجسور بدل الجدران.”
وأضاف أزولاي أن التاريخ علّمنا أن التنوع كان دائمًا مصدر قوة للحضارات، مستحضرًا كيف شكلت القرون الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة حقبة التقاء الديانات التوحيدية الثلاث في سعيها لتنوير العالم.
حذر أندريه ازولاي من المفارقة التي نعيشها اليوم، حيث بلغت التكنولوجيا ذروتها، فيما تشهد إنسانيتنا تراجعًا مقلقًا، قائلًا: “هذا تناقض يجب أن ننتبه إليه، فهو إنذار يستدعي وقفة تأمل.”
كما أكد على أن الالتزام بقيم التعايش والانفتاح لم يكن رفاه بل ضرورة ملحة، داعيًا إلى الاستمرار في الدفاع عن هذه المبادئ، قائلًا: “علينا أن نتحدث، أن نتصرف، أن نحمي تلك القيم التي جعلت من إنسانيتنا رصيدًا لا ينضب.”
هذا ونوّه مستشار جلالة الملك بالدور الريادي الذي يلعبه المغرب، تحت القيادة الحكيمة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، كأنموذج عالمي في تعزيز التعايش والتسامح بين الأديان والثقافات.
من جانبها، أبرزت وزيرة الثقافة والرياضات بحكومة إقليم الأندلس، باتريسيا ديل بوزو فرنانديز، أهمية الحفاظ على “روح الصويرة”، ونقل هذه التجربة خارج أسوار بيت الذاكرة وخارج أسوار الصويرة الحصينة إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، معبرة عن ذلك فيما معناه: “أننا لن نغادر الصويرة كما أثينا إليها بل محملين بقيم جديدة”.
من جانبه، أشار ممثل مؤسسة “الثقافة الإسلامية والتسامح الديني” في إسبانيا إلى أهمية لقاء مماثل، يجسد الإرث الإنساني المشترك بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط في أبعد تجلياته، وتقاطع التقاليد والأعراف والثقافات التي تربط بين الضفتين، مؤكدا أن الصويرة مثال حي وشاهد على الذاكرة المشتركة، وجسر يربط بين الشرق والغرب، وبين الماضي والحاضر والمستقبل ويجمع بين الديانات الثلاث والثقافات والروحانيات.
دور التصوف في نقل التدين الشعبي
في يومه الختامي، سلط المهرجان الضوء على دور التصوف في بناء النسيج الاجتماعي، من خلال ندوة تحت عنوان: “دور الزوايا في نقل التدين الشعبي وتعزيز الروابط الاجتماعية”، ناقش من خلالها المتحدثون العلاقة العميقة بين الطرق الصوفية المغربية والإسبانية، باعتبارها رافعة روحية وأخلاقية حافظت على التوازن المجتمعي عبر العصور.
وهكذا، يرسخ مهرجان “روح الثقافات” مكانته كجسر يربط بين التقاليد والثقافات، محولًا مدينة الرياح إلى رمز عالمي للحوار والتعايش المشترك، في زمن باتت فيه الحاجة ماسة لنثل هذه المبادرات.
يشار أن مهرجان “روح الثقافات”، الذي أُطلق لأول مرة في 2023، والذي قدّم تجربة ثقافية فريدة جمعت فنانين من ديانات وثقافات متعددة، تحدّى من خلالها هشام دينار، ابن موكادور، فكرة الاختلاف، فجمع في ملحمة “روح الثقافات” فنانين من مختلف الديانات والثقافات، وأنغامًا موسيقية تراثية من المديح والسماع إلى الكناوي والشكوري والعيساوي والأمازيغي، لتسجّل بذلك سنة 2023 ميلاد مهرجان يجسد روح التنوع الثقافي والتسامح الديني.
وكذا موعدًا سنويًا يسترشد بالتوجيهات الملكية السامية لجلالة الملك محمد السادس حول تعزيز الحوار بين الأديان واحترام التنوع الثقافي. ومرآة عاكسة لروح الدستور المغربي في صيانة تلاحم الهوية الوطنية، التي تنصهر فيها المكونات العربية الإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية، بروافدها الأندلسية والعبرية والمتوسطية.
ويشار أيضا أن النسخة الثانية، والتي هي استمرار للأولى شهدت حضورًا لافتًا لـ”الأخويات الدينية الثلاث”، ومشاركة وحضور لافت لمؤسسة الثقافات الثلاث، ومشاركة أكثر من 120 فنانًا من مختلف الديانات، قدموا عروضًا موسيقية وحوارية تاريخية، سواء في دار الصويري أو بالمسرح الكبير.
وهكذا يمكن القول أن مهرجان “روح الثقافات” استطاع أن يبصم بالعشرة على “الصويرة ” كمنصة فريدة واستثنائية للتعايش الديني والثقافي وملحمة جمعت بين مختلف التعبيرات الفنية والروحية، ومواصلة على درب تعزيز مكانة المدينة التاريخية المشرفة.