الرائدة في صحافة الموبايل

“الأسس الفكرية لمفهوم حقوق الإنسان”؛ موضوع ندوة فكرية بكلية الآداب بن مسيك

ياسين شاكور – دنا بريس

 نظم ماستر الفكر الإسلامي والمشترك الإنساني، بالتنسيق مع شعبة الفلسفة، محاضرة ألقاها الأستاذ الدكتور عبد الله المتوكل في موضوع الأسس الفكرية لمفهوم حقوق الإنسان، يوم الأربعاء 4 دجنبر 2019  على الساعة العاشرة صباحا بقاعة عبد الواحد خيري في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بن مسيك- الدار البيضاء.

      انطلقت الندوة بكلمة ألقاها الدكتور مخلص السبتي منسق ماستر الفكر الإسلامي والمشترك الإنساني، أبرز فيها مبررات إنشاء هذا الماستر، منها الانفتاح على الآخر واستيعاب فلسفته؛ فللحقيقة أوجه متعددة ولا شيء يعلو عليها، وهي غير جاهزة لا بد من تشييدها. كما شكر الأستاذ عبد المجيد جهاد (أستاذ علم الاجتماع بالدار البيضاء) الأستاذ المحاضر الدكتور عبد الله المتوكل (أستاذ الفلسفة بشعبة علم الاجتماع وعلم النفس بالمحمدية) على تقبله للدعوة الكريمة؛ موضحا أهمية المقاربة الفلسفية التي سيقدمها المحاضر لمفهوم حقوق الإنسان.

     انطلق الدكتور عبد الله المتوكل من تثمين انفتاح الدراسات الإسلامية على الفلسفة، الفلسفة التي تعلم البشرية كيف تفكر، وتحررها من المعتقدات الجاهزة التي لها انعكاسات سلبية على السلوك الفردي. أعلن المحاضر منذ البداية عن مسلمة، تعد أساس محاضرته حول الأسس الفكرية لحقوق الإنسان، مفادها أن حقوق الإنسان ظهر في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر للميلاد، ومن ثم تنفي المسلمة تصورات كثيرة ترى وجود حقوق الإنسان قبل ظهور المجتمعات الحديثة. لهذا وقف عبد الله عند المرجعية الفكرية، دون الأخرى التاريخية والسياسية، لحقوق الإنسان؛ بدءا من اليونان، مرورا بالعصر الوسيط وعصر النهضة وصولا إلى فلاسفة الحق في المرحلة الأنوارية والحديثة. وبالتالي، قدم فلاسفة اليونان لفلسفة الحق الحديث مفهوما أساسيا هو القانون الطبيعي؛ إذ يستنبط الفيلسوف اليوناني الحق من طبيعة الأشياء، وهي طبيعة يعلو البعض، فيها، فوق بعض، لذا نجد الكوسموس الصغير (المدينة) يخضع لقوانين طبيعية صارمة؛ فالعدالة عند أفلاطون، على سبيل المثال لا الحصر، لا تنشد المساواة بين البشر نظرا لاختلاف طبائعهم والتي تفرضها قوانين الطبيعة.

      كما توقف المحاضر عند فكرة وحدة الوجود عند المدرسة الرواقية، فاعتبرها من منابع حقوق الإنسان؛ إذ أمكن للبشر إدراك مبادئ الحق بواسطة العقل (العناية الإلهية)، وهو قانون واحد أدى إلى بروز الحكيم والمواطن الرواقي العالمي.

     أما في العصر الوسيط، تحدث المحاضر عن دور الأفكار الجديدة للديانة المسيحية (لا عن تأويلاتها) والتي قد تشكل منبعا أيضا لحقوق الإنسان؛ بحيث خلق الإنسان على صورة الإله، بل إن المسيح هو الإله، وبالتالي يحضر الإلهي في الإنساني، ما يضفي قيمة مقدسة على الكائن البشري. فهذا أوغسطين تحدث عن القانون الطبيعي الذي يعبر عن الإرادة الإلهية ولاستنباط السلوك الأخلاقي لا بد للإنسان أن يعود إلى القانون الإلهي (الوحي)، وهو تصور كان له انعكاسات خطيرة على الدولة، وبالضبط ما سمي لاحقا بالأوغسطينية السياسية التي خلفت الحق الإلهي. أشار المحاضر كذلك لقديس آخر وهو طوما الأكويني؛ الذي اعتبر البشر جزء من القانون الطبيعي، ويمكن لهم استنباط الحق والقوانين من هذا القانون الطبيعي.

       اتجه المحاضر، بعد ذلك، نحو أوكام الذي لا يرَ وجود قانون طبيعي يُفرض على الإرادة الإلهية؛ فالمجتمع ليس كائنا طبيعيا ولا الإنسان اجتماعيا بالطبيعة، إذ أن المجتمع هو مجموع الأفراد الذين يعيشون في إطار ما يفرض عليهم العقل والأخلاق.

      هكذا قامت الحداثة بعلمنة كل تلك التصورات والمفاهيم السابق ذكرها، بل ستتجاوزها بالمعنى الهيغلي للجدل؛ أي تجاوز واحتفاظ. وعليه، لا يمكن فصل الحق الحديث عن الانقلاب الذي أحدثته الفلسفة والعلم الحديثين؛ فالقرن السابع عشر هو قرن التركيبات الكبرى بين تيارات الفكر القديم وأخرى حديثة، فضلا عن أنه قرن السجال الحاد حول طبيعة الذات الإلهية وإشكال الحرية. ومن داخل هذا النقاش سيظهر مفهوم جديد للإنسان، وهو ناتج عن التصور الجديد الذي أرساه العلم الحديث للطبيعة وللتاريخ، إلخ.

       وعليه، عاد المحاضر إلى النموذج الديكارتي ليوضح تصوره للإنسان الذي يتميز بالعقل والإرادة والحرية، فضلا عن قدرته على التشريع الذاتي لتحديد مصيره دون أن يستند على مرجعية دينية أو سحرية، إلخ. فلا يمكن فصل الفلسفة عن العلم في هذه المرحلة، إذ هي متضمنة داخل العلم؛ فنظرية غاليلي العلمية الميكانيكية حول الكون، أي هو عبارة عن مادة وامتداد، ويخضع لقوانين عمياء، ولا مجال فيه للعلل الغائية، حطمت التصور التقليدي للكون وللإنسان. فهذا أضحى جزء من الطبيعة ومن ثم تسري عليه قوانينها، فلم يعد ذلك الحامل لرسالة ربانية كما عدته المسيحية. كما سيحطم هذا التصور الجديد للكون القانون الطبيعي عند اليونان؛ إذ لم تعد الطبيعة روحا ومادة ونفسا تحكمها علل غائية. لهذا بحث ديكارت عن نقطة ارتكاز لتشييد المعرفة العلمية، واعتبر الذاتية هي منطلق هذا الارتكاز، فضلا عن فصله للعالم إلى مادة وفكر، إذ جوهر الإنسان هو العقل في حين يبقى الجسد حركة وامتداد. وبالتالي أصبح الاستدلال الرياضي منطلق كل معرفة تطلب اليقين. 

       إذن، غزى المنهج الديكارتي مناهج الحق الحديث؛ بحيث ثمة العديد من الثنائيات في المذاهب الحديثة مثل ثنائية الذات والموضوع، والطبيعة والثقافة، ثم الكائن وما ينبغي أن يكون، إلخ. وفي المقابل أعلن المنهج الديكارتي موت الحق الكلاسيكي؛ إذ أصبح من المتعذر استنباط الحق من طبيعة الأشياء العمياء، فتم استنباطه من الذات البشرية. هكذا ساهمت الميتافيزيقا الديكارتية بطريقتين لاستنباط الحق داخل مدرسة الحق الحديث؛ الأولى سيستنبطونه من طبيعة الإنسان العاقلة وسيبنون استدلالهم من الاستدلال الرياضي. الثانية، سيستنبطون الحق من طبيعة الإنسان بما هي مصدر الأهواء، وهو ما سيستلهمه هوبز سبينوزا. ومنه، نفهم الخلفية الميتافيزيقة للحق الحديث.

       وتبعا لذاك، أشار المحاضر للتصور السياسي عند هوبز، وبين أنه لا يمكن فهم هذا التصور دون فهم تصوره للطبيعة الغاليلي مع ضرورة استحضار المنهج التحليلي، التركيبي، الفزيائي. ففهم المجتمع (أو الدولة)، حسب هوبز، يأتي من العودة إلى أجزاءه ليبين أن الكل قائم على الصراع والحرب، وعبر هذه العودة نكتشف مبادئ الحق والعدالة.

     وبناء عليه، استند فلاسفة الحق الحديث على ثلاث مفاهيم أساسية؛ افترضوا حالة طبيعية (كان الناس متساوون في ظلها ويتمتعون بالحرية التامة) لنقد النظم المستبدة بغية إصلاح المجتمع. والحق أن هذا الافتراض هو على غرار مسح الطاولة الديكارتي؛ أي أنهم حاولوا بناء المجتمع من منطلق اليقين الأولي (حالة الطبيعة) وهو مجتمع يحفظ حقوق البشر ويضفي مشروعية سياسية على السواء. أدى هذا الافتراض إلى إضفاء طابع الكونية على الإنسان؛ أي سابق عن الثقافات والدول، وبالتالي له حقوق كونية.

       يؤكد المحاضر كذلك، في هذا الصدد، على أهمية مفهوم القانون الطبيعي؛ إذ ارتفع العقل إلى مصاف القانون الطبيعي. لكن، كيف تم هذا التطابق بين القانون الطبيعي والعقل الإنساني؟ يقول الدكتور عبد الله المتوكل بإحلال عقل الإنسان محل عقل الله؛ بحيث أضحى الإنسان المصدر الوحيد للقانون الطبيعي، فتمت علمنة وأنسنة الحق (يعود الفضل في أنسنة الحق كذلك إلى غروتيوس الذي أكد على أن الله لا يمكنه التدخل في القانون الطبيعي وتغيير مجراه، إذ إن دور الإله في التدخل انتهى بعملية خلق العالم)، وكل هذه الحقوق الطبيعية (الحق في الحياة، الحق في الملكية، إلخ) تم استنباطها من القانون الطبيعي (العقل)؛ لأنه وحده يُعلم البشر معرفة حقوقهم والتي لا يمكن الاستغناء عنها، ويجب على الدولة حماية هذه الحقوق الطبيعية. لهذا تشترط حقوق الإنسان دولة القانون والديمقراطية لضمان تلك الحقوق (ولقد وضع روسو الأسس المباشرة للديمقراطية، ويعتبر لوك بحق مؤسس عقيدة حقوق الإنسانية الليبرالية، وقد أضاف مونتسكيو لها مبدأ أساسي المتجسد في فصل السلط). كما تفترض حقوق الإنسان أولوية الفرد على المجتمع، وأن له حقوق ذاتية لا موضوعية.

     أخيرا، أكد الأستاذ عبد الله المتوكل على تجسد حقوق الإنسان، التي وضع الفلاسفة أسسه، بشكل صريح، في أواخر القرن الثامن عشر في إعلانات أمريكا وفرنسا، واعتبر أن كل الإعلانات اللاحقة (الحقوق التضامنية، والحقوق الاجتماعية، إلخ)، وإن بدت مختلفة، فإنها ترتبط بحقوق الإنسان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد