- أعتقد أن شخصية القواد، أو الوسيط، تكاد تكون منفردة، لأن صاحبها يتجرد من كل ما يمكن أن يجعله يتحلى بالشجاعة والجرأة والمبادرة، أو حتى الإنسانية …
- وقد “تطورت” الدعارة مع التطور الحضاري، حين انتقال المجتمعات من تقليدية إلى حديثة، بحيث عرفت المجتمعات الحديثة تبدلا وتقدما على مستوى الإنتاج ووسائله، لكن غابت القيم والعلاقات الإنسانية السليمة
- الدعارة والمقاربة الأمنية ..
قليلة هي السبل المؤدية لسبر غور ظاهرة الدعارة، أو يمكن تسميته بالعلاقات الجنسية خارج المؤسسة الزوجية ..الكل يعرف ويعي الظاهرة، لكن يرفض الحديث عنها.. الجميع يذم الظاهرة، ومنهم من هو من صناعها .. الجنس عالم قائم بذاته. بشخصياته وشبكاته والعلاقات بين أفراده. الجنس مذر ماليا، أساس رأس المال في هو جسد المرأة .. كل شيء يدور حول المرأة .. تتعد المبررات وأشكال الممارسة، لكن يبقى الصلب الظاهرة هو المرأة والتعاطي معها كمحو لمارسة البغاء أو الدعارة أو تجارة الجنس أو ما تلاها من الأسماء .. ربما كانت ملامحها الواضحة من عهد الحضارتين الإغريقية والرومانية في المكانة التي كانت للمرأة، بحيث ظلت موضوع جنس أو نزوات ذكورية .. ثم في أسواق النخاسة عند العرب وداخل قصور سلاطينهم عبر الحقب التاريخية المتتالية ..
وقد “تطورت” الدعارة مع التطور الحضاري، حين انتقال المجتمعات من تقليدية إلى حديثة، بحيث عرفت المجتمعات الحديثة تبدلا وتقدما على مستوى الإنتاج ووسائله، لكن غابت القيم والعلاقات الإنسانية السليمة، وأضحت الدعارة تتخذ أشكالا وألوانا، وبالتالي تسميات مختلفة، بل أضحت صناعة سينمائية ورياضا متخفية وحرفة للوسطاء .. وقد تكون الدعاة طوعية، بمعنى أن المرأة تختار سبيل عاملات الجنس بشكل إرادي، وأن أننا نرى في هذا الأمر بعضا من سوء التقدير، لأنه لا أحد يرمي بحسده لتنهشه الكلاب، فقد يتعلق الأمر بترسبات ومخلفات نفسية تعود للطفولة أو البنية النفسية لهذه العينة من النساء، فلابد هنا من المقاربة النفسية للظاهرة ومن خلالها للمتعاطين لها. فالتعاطي للدعارة يدل على أن أصحابها يعانون من قهر نفسي، وبالتالي فهم في حاجة للبوح وإلى من يحسن الإصغاء لما بدواخلهم، أو اقتفاء أثر طفولتهم وحاجياتهم. ثم المقاربة الاجتماعية، حيث العوز يدفع بالكثيرات إلى امتهان الدعارة دون وعي من الآخر الذي يسعى وراء تلبية نزواته دون اعتبار للدوافع المؤدية للفعل، متناسيا أنه هو ذاته ”عاهر” دون أن يعي ذلك، لأنه يرى في فعل المرأة، موضوع الجنس، مذلة، وهو بريء من الفعل، أي أنه لا يعتبر نفسه شريكا.
وقد يكون امتهان الدعارة نتيجة زلات في بداية العمر، أو حمل ناتج عن ”حب”، أو مكر أو خديعة، أو تغرير، لأنه غالبا ما تكون المرأة ضحية مكر الرجل في مجال كهذا. وبالتالي فأي مقاربة لا تأخذ بعين الاعتبار ما هو نفسي واجتماعي ودور الطرف مشارك في الفعل، تعتبر مقاربة غير ذات جدوى، أي أن علاج الظاهرة يتطلب تشخيصا، وهذا الأخير يستلزم استحضار جميع العناصر والمعطيات المشكلة للظاهرة .. فكم من فتاة في مقتبل العمر اختارت الهرب من أهل بيتها أو التخلص من حياتها أو التخلص من جنين هو “فضيحة” لعلاقة عابرة أو علاقة تغرير، أو اعتداءات جنسية داخل الأسرة بين أفراد العائلة، والتي قد تكون من أقرب الناس إليها، وتبقى في طي الكتمان، وتصنف في خانة زنى المحارم .. والمؤسف في كل هذا ان مثل هذه الاعتداءات تبقى بعيدة عن العقاب المستحق … فتكون النتيجة أن تبتعد الفتاة الضحية عن بيت أسرتها لتمتهن الدعارة وهي تحمل بداخلها هما وحرقة لا مسكن لهما.
لماذا لا يتم التعامل مع ظاهرة الدعارة بشكل واضح وعلني بعيدا عن المقاربة الأمنية او القانونية أو حتى الدينية؟ أليس حريا بالمجتمع أن ينظر للأمر من حيث هو ظاهرة اجتماعية لا تقل خطورة عن ظواهر أخرى مثل العنف والانتحار والقتل والسرقة الاتجار في المخدرات والخمور…؟؟؟ لماذا يتم التكتم على الأمر، أو محاولة طمسه وفق وساطات او تراضي؟ من هنا يبدأ ميلاد الدعارة، أي في خضم هذه العلاقات الملتبسة والغامضة داخل المجتمعات، ومنها مجتمعاتنا؟؟؟
يشكل العمل في مجال الدعارة تدميرا لجسد المرأة، على المستوى الصحي، لأنها تفتح فخديها لمن يدفع مالا، فيترتب عن ذلك نمو العديد من الأمراض، لأن عاملة الجنس لا تربطها علاقة بشخص واحد، بل بعدد غير قليل، وهي من موقعها، لا يمكنها مراقبة والتأكد من السلامة الصحية لكل من تمارس معه الجنس، وهو الأمر الذي تفشت معه العديد من الأمراض الموسومة بالجنسية نتيجة لهذه العلاقات. ثم هناك التأثر النفسي، لأن عاملة الجنس تتعرض لضغط نفسي تعمل جاهدة على مقاومته أو دفعه أو مداراته أو إرجائه إلى حين، فيظل السؤال مطروحا، لماذا ممارسة الدعارة؟ هل الفقر والبحث عن المال ما يدفع لذلك؟ لاشك أن الجواب يكمن في عدم التوازن النفسي الذي يؤججه إجحاف المجتمع المتحامل على عاملات الجنس، من خلال النظر إليهن بابتذال ودونية متناسين أنهم شركاء في الفعل، أي أن الدعارة مشترك بينهم. وغالبا ما تحرم عاملات الجنس من النسل.
- الاستعمار خلق ال”بورديل” Bordel .. حيث حل وارتحل ..
يتم تداول كلمة ”بورديل” Bordel، التي تحمل دلالة مباشرة نحو الفضاء الذي تمارس فيه الدعارة، حيث تتواجد العاهرات أو الباغيات أو بائعات الهوى أو عاملات الجنس بعدد كبير، ويقبل الزبائن على هذا المكان ويختارون من سوف تلبي نزواتهم. وقد يكون المكان فندقا أو مسكنا مرخصا له، أو حيا كاملا مثل بوسبير Bousbir بالدار البيضاء، كما الشأن خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية، حيث تم تقنين الدعارة وحصرها في أماكن محددة، أو لنقل حصرها بنسبة كبيرة في فضاءات تتم مراقبتها وضبطها وفق شروط صحية وجبائية، حيث تخضع عاملات الجنس للمتابعة الطبية والتلقيح والعلاج، ثم استخلاص الضرائب منهن باعتبار أن لهن دخلا ويستفدن من خدمات التطبيب والأمن، فتنشط حرف أخرى بفعل الدعارة، أهمها “القواد”، أي الوسيط أو الموجه أو الشخص الذي يتولى الإشراف على كل هذه العمليات، بما فيها الرقابة والوشاية.
ويستمر عمل المرأة في مجال الدعارة رغم تقدمها في السن حيث تتحول إلى “باطرونة” كما هو في التداول الشعبي، Une matrone، أي رئيسة مباشرة لعاملات أقل منها سنا وتجربة في مجال الدعارة، ف”الباطرونة” تعمل على إدارة شؤون منزل للدعارة وتسهر على “راحة” الزبناء، وتستخلص المستحقات منهم، كما تعمل على مراقبة وضبط العاملات، وغالبا ما تكون “الباطرونة” قاسية، متسلطة تجاه عاملات الجنس تحت إمرتها، وكأنها تنتقم لنفسها من الوضع الذي آلت إليه بسبب تعاطيها لمهنة الدعارة.
لقد عمد الاستعمار إلى تشجيع الدعارة داخل البلدان التي يحتلها، من خلال إنشاء بيوتات لها، بل أحياء وسك المدن والقرى والمداشر، حيث تنتشر دور الدعارة والخمارات بكل حرية تحت رعاية وحماية السلطات الاستعمارية، وقد سخرت لهذا العمل أهل البلد المحتل أنفسهم، فهم من يتولون البغاء وإدارة شؤونه، لأن الاستعمار لم يكن ليستهدف الموارد الاقتصادية فقط، بقدر ما عمد إلى ضرب الهوية والعمق الثقافي لأهل هذه البلدان، انطلاقا من خلفية صليبية إن صح التعبير. من هنا نجد عدد من الأحياء والأزقة تحمل أسماء عاهرات معلقة على يافطات عند مدخل الزقاق والحي، أو إنشاء ما كان يعرف بالأحياء الخاصة أو المحجوزة Quartiers réservés، وتم تغييرها فيما بعد، ولو أن الذاكرة الجماعية لا تزال تحتفظ بها …
- شخصية ”القواد”
أعتقد أن شخصية القواد، أو الوسيط، تكاد تكون منفردة، لأن صاحبها يتجرد من كل ما يمكن أن يجعله يتحلى بالشجاعة والجرأة والمبادرة، أو حتى الإنسانية … فهو بمثابة سمسار الفاحشة، يعرض خدماته مقابل المال. ولا يمكن حصر مهنة “تقوادت” في الرجل دون المرأة، أو في محيط ضيق، لأن “تقوادت” موجودة وفق معايير العرض والطلب، وبهذا تكون في شكلها البسيط وسط سكن أو حي، وقد تتجاوز محيطها الضيق إلى خارج الوطن. كما تتخذ الدعارة أشكالا تسمى راقيا، ولو أنها منحطة، فلربما سمت كذلك بسبب الطبقة الاجتماعية التي تتعاطاها وتسعيراتها، والشبكة التي تتجار فيها.
قد تختار العديد من الفتيات امتهان هذه الحرفة لتلبية حاجياتهن، من ملابس وسيارة وسكن ووو، لأن قدراتهن الشرائية لا يصل لتلبية هذه المتطلبات، ولا نقول ضروريات، وهي آفة تنتشر بين من يعانين من عقدة “الانتحار الطبقي”، ويرين في أجسادهن السبيل ل”الانتماء” لهذه الطبقة، فيكون “القواد” متأهبا وبالمرصاد لهذه الفرائس، و”القواد” هنا بصيغة المؤنث والمذكر .. من هنا تبدأ الحكاية .. الجميع يلجأ إلى “قواد” للظفر بالمتعة والاستمتاع بنظارة الجسد الأنثوي، أو الذكوري، فكما أن هناك عاملات الجنس من الإناث هناك عمال جنس من الذكران.
تلتبس الأمور وتتشابك معطيات التحليل، إذ لابد من الخوض في خبايا الظاهرة، ظاهرة “تاقوادت”، أي في شخصية من يمتهنها، لأن الأمر محير شيئا ما، إذ نعتقد أن “القواد” يعيش حالة الإذلال أو اللابشرية، بسبب ما يقدم عليه من أفعال، لهذا لم أجد تشبيها لهذه الشخصية غير سلوك الخائن بمفهومها الواسع، أو الواشي .. “القواد” souteneur Le، أي وسيط الفاحشة …(يتبع)
د. محمد حماس