عاملات الجنس .. أو الدعارة، ذلك المشترك الإنساني المسكوت عنه ..(ج1)
• … ونحن إذ نعرض لهذا الموضوع، فليس من باب التحامل أو الفاع عن ظاهرة الدعارة، لأن المر لا يحتاج منا أو من غير لذلك، فالطاهرة اجتماعية عرفتها ولا تزال جميع المجتمعات البشرية، ولن تزول إلا بزوال البشر، فقط هو التعامل معها من زوايا مختلفة، التحريم والتقزز والنبذ والاتجار والزجر القانوني … نظرة المجتمع دونية تحتقر الظاهرة وأصحابها، ولو ان الاحتقار والأذى والعار يلحقان غالبا بالعاهرة/المرأة.
ومن العاهرات من بلغت مجدا، او كانت وراء مجد عظيم، فالعاهرتان “داني” و”ليونتيوم” جعلتا الفيلسوف أبيقور يتمثل فلسفة اللذة. ثم العاهرة “فريني” التي وقعت في غرام النحات الشهير براكسيتليس إذ جعل لها تمثالا على غرار صورة الإلهة “أفروديت”، والعاهرة “لئيس” التي جمعت ثروة طائلة أنفقتها على الفقراء وبناء المعابد … وغيرهن كثر.
تعود بنا الأسطورة اليونانية لإحدى اللحظات الحميمة التي لا زالت تشكل مصدر متعة ولذة بالنسبة لبني البشر، عبر مرور الحقب التاريخية مشكلة المشترك بين الإنسانية، ويتعلق الأمر بزراعة الكروم وصناعة الخمور، والمتعة، وممارسة النشوة، وتحقيق اللذة، وذلك من خلال أسطورة ديونيزوس ورفيقته سيلين، اللذان عملا على تعليم الناس كيفية الإقبال على هذه الملذات وتحقيق النشوة، وهو فعل استلزم الاحتفاء بديونيزوس، امتنانا له لسيعه وراء خلق اللذة.
وبالعودة للقرن 5 ق م، سوف نجد أن بلاد الإغريق عرفت انتشارا واسعا حد الظاهرة، للعاهرات من مختلف المراتب الاجتماعية، ولعل أدناها ما عرف ب”البورناي” الذين اتخذوا من المواخير سكنا لهم تحت رعاية الحكومة إذ الفتيات شبه عاريات. وقد كانت الدعارة في أثينا، قديما، مقننة وتؤدى عنها ضرائب للحكومة، وتختلف الدعارة من طبقة اجتماعية لأخرى(1)
مومس، عاهرة، فاسدة، بائعة الهوى، باغية، غاوية، ساقطة، فاجرة، فاسقة، مسافحة، … جميعها أسماء تحمل صفة بذيئة منحطة داخل المجتمع، توصف بها المرأة التي تبيع جسدها للرجل، بل يعتبر مجرد طرق هذا النوع من الحديث فجورا وخدشا للحياء .. لكن نتساءل فقط عن سبب إعفاء الفاعل من فعل العهر وصفته، أي الرجل؟ أو ليس الرجل عاهرا مقابل العاهرة؟؟ ألا يحمل ذات الصفات، ويتقاسمها مع المرأة، باعتبارهما شريكان في الفعل؟؟ لماذا هي مرفوضة داخل المجتمع؟ بل لماذا يعاقب كل من يقدم على هذا الفعل؟؟ بل الإسلام قضى بالرجم المؤدي للموت، أي الإعدام؟؟
ويحمل لنا التاريخ البشري/ مكتوبا أو شفويا أو مسكوكا، روايات ووقائع عن الدعارة باعتبارها فعلا مألوفا لا محيدا عنه داخل المجتمعات بمختلف تراتبها الاجتماعي، وهو امر لم يغفل عنه المؤرخون، حيث وقفوا عند وقائعه كجزء من تاريخ هذه المجتمعات، ومنها المغرب الذي لا يمكن أن يشكل استثناء عن قاعدة الدعارة باعتبارها ظاهرة سوسيولوجية، أو لنقل عنها ظاهرة ثقافية، بالمعنى الواسع للثقافة، أي الثقافة كنمط عيش.
كانت الدعارة تمارسة في مختلف مدن المغرب وسط أحياء معروفة وخاصة بأثمنة بخسة، وقد عاين الرحالة الحسن بن محمد الوزان الفاسي، صاحب كتاب وصف أفريقيا حيا للدعارة بفاس يحميه رئيس الشرطة وحاكم المدينة (2). وذكر عبد الرحمن بن زيدان (3) أن السلطان عبد الرحمن كتب عن ظاهرة الدعارة، وأن الشيوخ عمدوا إلى إفساد زوجات رعاياهم، خاصة من كن على حسن وجمال. واورد الضعيف (4) أن أحد القواد، وهو القايد الحبيب المالكي ترامى على قرية بكاملها سنة 1767م، ومنع الرجال من دخولها دون النساء، وكان يأتي بالنساء هناك كرها لممارسة البغاء وإشباع نزواته.
ونجد اهتماما كبيرا بظاهرة الدعارة لذى الكتاب الفرنسيين الذي أرخوا لفترة الاستعمار الفرنسي، أمثال المؤرخ الفرنسي جاك تورتو الذي تناول بالحديث الدعارة وما يرتبط بها من مهن، خاصة وأنها تشكل مصر ربح ل”العاهرة” و”القوادين”، وتخلق رواجا اقتصاديا، خاصة وسط الأحياء الفقيرة حيث يتم استقطاب الفتيات القادمات من البادية واستغلالهن، ومنهم من يتنقل بعيدا عن الأهل، وبالتالي تم التأسيس لشبكات سرية للدعارة والتي تتطور وتجدد الأساليب وتختلف من وسط لآخر، ومن فئة اجتماعية لأخرى، لكن تبقى المهنة واحدة، يزاولها عدد هائل من العناصر ولا يظهر في الواجهة غير الفتاة العاهرة. ثم Christelle Taraud، المتخصصة في الشؤون المغاربية، خاصة في كتاب “La prostitution coloniale”، والذي تناولت فيه ظاهرة البغاء أو الدعارة في المفرب والجزائر وتونس في الفترة ما بين 1830 إلى 1962، الشيء الذي يعطيه أهمية بالغة، لأنه يرتد بالظاهرة إلى لما يراوح قرنا من الزمن. ثم كتاب ” Bousbir : La prostitution dans le Maroc colonial. Ethnographie d’un quartier réservé. »، وهو عمل مشترك بين Jean Mathieu et P.H. Maury، وهو عبارة عن قراءة أنثروبولوجية لحي خاص، بمدينة الدار البيضاء، اشتهر بانتشار الدعارة خلال فترة الحماية الفرنسية، وكانت العاهرات يخضعن للمراقبة الطبية والمتابعة اليومية، لأن الجنود الفرنسيين كانوا يترددون على هذا الحي … فأصدرت مرسوما لذلك سنة 1924 تم تحيينه سنة 1954، وهو قانون يرخص بفتح بيوتات الدعارة أو ما عرف ببيوت ممارسة المتعة
ويروي الصحفي الفرنسي “بيير داريوس” الذي أنجز تحقيقا عن حي بوسبير سنة 1933، أن عدد العاهرات راوح 1000، فتاة منهن الفرنسيات والإسبانيات والمغربيات، مسلمات ويهوديات، ليرتفع عددهن إلى 3000 عاهرة …(يتبع)
د. محمد حماس
الهوامش
1) Revue des Études Grecques, tome 113, Juillet-décembre 2000
2) الحسن بن محمد الوزان الفاسي، وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، ط2، دار الغرب الإسلامي، 1983، ج1، ص. 250
3) عبد الرحمان بن زيدان، إختلاف أعلام الناس لجمال أخبار حاضرة مكناس، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ج1، ط. 1، ص.