الرائدة في صحافة الموبايل

كلمة رئيس النيابة العامة بمناسبة اللقاء الوطني حول موضوع بدائل الإيداع المؤسساتي للأطفال في تماس مع القانون

شارك السيد محمد عبد النباوي رئيس النيابة العامة في افتتاح أشغال اللقاء الوطني حول “بدائل الإيداع المؤسساتي للأطفال في تماس مع القانون” الذي تنظمه رئاسة النيابة العامة بشراكة مع مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء، في إطار برنامج التعاون مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونسيف. والذي يتزامن مع تخليد العالم للذكرى الثلاثين لاعتماد اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل.

أعرب مُجدداً عبد النباوي لليونسيف، في شخص ممثلتها السيدة جيوفانا بارباريس وكذا فريق عملها، على التفاعل والتجاوب الدائم مع برامج واهتمامات رئاسة النيابة العامة، الرامية للنهوض بحقوق الطفل وتعزيز ولوجه للحماية القضائية. كما أشكر مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء على الدعم المتواصل للقضايا الإنسانية ولاهتمامها بالفئات المحتاجة للحماية، وأرجو أن يستمر التعاون معها في مجالات أخرى مشتركة.


ليست الثروات الطبيعية مقياسا لغنى الشعوب أو تقدمها. بل إن العنصر البشري هو قاطرة التنمية بمختلف أبعادها، يقول عبد النباوي؛ لذا ما فتيء الملك محمد السادس، يؤكد على ضرورة النهوض بالرأسمال البشري وتأهيل الإنسان وحماية حقوقه. كما دعا غير ما مرة إلى ضرورة الاعتناء بالطفل، باعتباره المخزون الاستراتيجي والرأسمال اللامادي لبلادنا. وإلى ضرورة اعتماد سياسة عمومية يكون الطفل في صلبها. وقد وجه جلالته رسالة سامية إلى المشاركين في الدورة العاشرة للمؤتمر الوطني لحقوق الطفل بتاريخ 25 مارس 2013 دعا فيها كل “الفاعلين في هذا المجال حكومة وهيآت عمومية وجماعات محلية ومجتمعا مدنيا وقطاعا خاصا ومؤسسات إعلامية، للمزيد من التعبئة والتنسيق للنهوض بأوضاع طفولتنا، في إطار خطة مندمجة. وتوفير كل الوسائل الكفيلة بتفعيلها لتنشئة الطفل، بما يضمن تفتحه ومساهمته في بناء شخصيته ومجتمعه وتحقيق مواطنته الكاملة …وتمكين ناشئتنا من الخدمات الاجتماعية الأساسية لاسيما الأطفال في وضعية صعبة”.


إن حرص المغرب على شؤون أطفاله؛ يضيف عبد النباوي، يتأكد من خلال مصادقته على الاتفاقيات والصكوك الدولية التي تعنى بحقوق الطفل. مما جعل منه شريكا دوليا يعمل من أجل رفاه هذه الفئة. وهو انخراط تجلى من خلال سن قوانين وطنية تتماشى والقيم الكونية المتعارف عليها.


فالدستور أوكل للسلطات العمومية اتخاذ كافة التدابير اللازمة لحماية حقوق الأطفال وتأهيلهم وتسهيل ولوجهم للحياة ومعالجة الأوضاع الهشة التي تمسهم. كما أن باقي القوانين اهتمت بوضعيات الأطفال وحمايتهم من كل مظاهر الهشاشة أو العنف.
كما أن الدولة تسعى عبر البرامج الحكومية والمؤسساتية والمجتمعية إلى تفعيل القوانين المختلفة من خلال سياسات عمومية توخت دائما تطوير البنيات التحتية والمؤسساتية والخدماتية التي تعنى بالطفولة، سواء في أوضاع التمدرس والتكوين والتربية أو العناية الصحية والخدمات الاجتماعية، أو في مجال الحقوق المدنية وتوفير الحماية الجنائية.


غير أنه مهما اجتهدت المجتمعات في هذا المجال، فإن نقص الموارد الاقتصادية أو سوء استعمالها، بالإضافة إلى سوء بعض العادات، أو عدم مراعاة الأوضاع النفسية والتحولات البيولوجية للأحداث من طرف بعض مكونات المجتمع، تضع السلطات العمومية أمام تحديات مستمرة لفرض تطبيق السياسات العمومية الخاصة بحماية الطفولة.


ومن هذا المنطلق، وإيمانا منها بأهمية الدور الذي تلعبه النيابة العامة في حماية الأطفال في تماس مع القانون، فقد حرصت رئاسة النيابة العامة منذ تأسيسها على إيلاء هذه الفئة عناية خاصة، عبرت عنها بواسطة مجموعة من الدوريات والمناشير الموجهة إلى قضاة النيابة العامة وعبر عدة دورات تكوينية، تحث أعضاء النيابة العامة على الاهتمام بقضايا الأطفال، وتفعيل المقتضيات القانونية التي يتيحها القانون لحمايتهم، سيما المقتضيات المتعلقة بالأطفال في وضعية صعبة، مع الحرص على تحري مصلحتهم الفضلى. والحرص كذلك على توفير ملاذات آمنة لهم خصوصا داخل أسرهم. والعمل على تتبع أوضاع الأطفال المودعين بمقتضى أوامر قضائية، بمن فيهم الذين يتم إيداعهم لدى الأسر. وما فتئت رئاسة النيابة العامة تعمل كذلك من خلال ورشات وتكوينات على توعية كل الفاعلين في مجال الطفولة وعلى رأسهم قضاة النيابة العامة بخطورة وحساسية العمل مع الأطفال في تماس مع القانون.

إن حماية الأطفال كما قررتها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ودستور المملكة وقوانينها المختلفة، تقوم على فكرة أساسية، هي “مراعاة المصلحة الفضلى للقاصر”. وهذه الفكرة ليست شعاراً، ولكنها برنامج عمل كامل الأركان، يرمي إلى تحقيق هذه المصلحة بالنسبة للقاصرين في كل أوضاعهم. وأن الممارسَ لمهمةٍ من المهام المتعلقة بهم، سواء كان قاضيا أو موظفا عمومياً، أو متطوعاً أو مربياً أو مراقباً أو موجها للأطفال. بل حتى آباؤهم وكافلوهم وكل أفراد المجتمع، يجب عليهم أن يتساءلوا عما إذا كان الإجراء الذي يقررون اتخاذه لفائدة الحدث، يجسد مصلحته الفضلى ؟. ويجب طرح هذا السؤال في مجال التربية والتعليم والتكوين، وفي فضاءات الألعاب والترفيه والتثقيف، وفي المجال الاقتصادي والاجتماعي، وحتى حينما يتعلق الأمر بزواج القاصر، الذي لم يجعله المشرع متاحاً بنفس الشروط التي يتم بها بالنسبة للرشداء، وإنما أخضعه لتقدير القضاء بعد إجراء خبرات طبية أو أبحاث اجتماعية، يراد منها التأكد من قدرة القاصر على تحمل عبء الزواج، وكذلك من كون الزواج يجسد المصلحة الأسمى له. وأن النيابة العامة باشتغالها على هذا الملف، فإنها تحرص على تنفيذ سياسة المشرع المغربي، ولا تنفذ اختياراتها الخاصة. ولذلك سيظل عملها مؤطراً بالنص القانوني والاجتهاد القضائي له.

كما أن فلسفة عدالة الأطفال تقتضي اعتبار جميع الأطفال في تماس مع القانون سواء كانوا ضحايا أو جانحين أو في وضعية صعبة
أو في وضعية إهمال، باعتبارهم أطفالاً محتاجين للحماية، وهم جميعا على اختلاف أوضاعهم ضحايا عوامل وظروف شخصية وبيئية، اقتصادية واجتماعية، أثرت على حياتهم ودفعت بهم إلى التماس مع القانون، وينبغي لآليات العدالة أن تتقصى مصلحتهم الفضلى، ليتحقق بالفعل ما أصبح يصطلح عليه بالعدالة الصديقة للطفل. وهي نظام تتفاعل فيه نظم العدالة مع حاجيات الأطفال. كما أنه نظام يتوخى أنجع السبل لتكييف الإجراء القانوني مع الظروف الخاصة للطفل ومصلحته الفضلى. وهو ما يدعو أولا وأخيرا إلى إبقاء الطفل في كنف أسرته ووسطه الحمائي الطبيعي والابتعاد عن إيداعه في المؤسسات المغلقة سواء مؤسسات الحماية أو الإصلاح أو سلب الحرية.
فكل انفصال عن البيئة الأسرية يعرض الطفل لأضرار متعددة ويهدد مستقبله وكيانه. غير أن الظروف قد تقتضي في بعض الأحوال إبعاد الطفل عن أسرته لأسباب قد تتعلق بالأسرة نفسها التي تصبح عاجزة عن تحقيق المصلحة الفضلى لأبنائها، أو تنعدم هذه الأسرة لسبب من الأسباب. فيقتضي الأمر البحث عن بديل لها. وهو ما يشكل نقطة تحول في حياة الطفل، قد يكون لها الأثر البالغ على حياته المستقبلية، بل على اكتمال تكوين شخصيته واتزانها فيما يستقبل من الأيام.

ولذلك، فإن السلطة المكلفة باتخاذ القرار المتعلق بالإيواء في مؤسسة بديلة للأسرة، وقد تكون أسرة أخرى، أو مؤسسة عمومية
أو خصوصية، وقد تكون فضاء مفتوحاً أو مغلقاً حسب الأحوال والظروف المحيطة بوضعية الحدث، وأسباب عرض قضيته على القضاء، أقول إن السلطة التي ستبت في اختيار الإطار البديل للأسرة الطبيعية، يجب أن تستحضر بقوة مصلحة الحدث. بعد دراستها من مختلف الجوانب النفسية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية، من أجل اختيار الفضاء الأنسب لنمو الطفل نمواً عادياً، يساعد على توازن شخصيته واكتمال نموها في الوسط الطبيعي المناسب. الذي كانت تلك السلطة ستختاره لأبنائها لو قُدِّر عليهم ما تعرض له الحدث أو القاصر المعروض على القضاء. وذلك باعتماد حلول بديلة صديقة للطفل وتحترم خصوصيته. ولعل من الآليات المعترف بها دوليا في هذا السياق ما أصبح يعرف ب “العدالة التصالحية ” أو نظام التحويل خارج المسار القضائي (LA DEJUDICIARISATION).

كما أن من البدائل التي يمكن طرحها للنقاش بالنسبة للأطفال في تماس مع القانون، ما جاءت به القاعدة رقم 18 من مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية النموذجية الدنيا لإدارة شؤون الأحداث للأمم المتحدة (قواعد بيكين)، التي نصت على مختلف التدابير التي يمكن للسلطة المختصة اللجوء إليها، من أجل تفادي اللجوء إلى الإيداع في المؤسسات الإصلاحية. حيث نصت على الأمر بالرعاية لدى إحدى الأسر الحاضنة أو البديلة.
ومما لا شك فيه أن الإيداع بالمؤسسات السجنية هو آخر ملاذ يتم اللجوء إليه. لذا يقتضي الأمر كذلك مناقشة مختلف بدائل العقوبات السالبة للحرية كالتدابير الرقابية الخاصة بالأحداث الجانحين. في انتظار أن يوفر المشرع آليات أخرى كالعمل لفائدة المنفعة العامة.


اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد