قراءة في كتاب “شروط النهضة”
عبد الواحد العوادي
ورقة تقنية:
صاحب الكتاب : مالك بن نبي
عدد الصفحات : 160
الطبعة: بدون طبعة
دار النشر : دار الفكر
ترجمة: عبد الصبور شاهين
إصدار: ندوة مالك بن نبي
عد أبواب الكتاب : ثلاثة أبواب.
يقول مالك بن نبي: ” كل قصة استعمار سبقتها قصة شعب قابل للاستعمار”.
شروط النهضة، أبرز مؤلفات المفكر الجزائري مالك بن نبي، وهو كتاب ركز فيه باكورة أفكاره المتعلقة بمشكلات الحضارة ، خاصة مشكلة الوعي الحضاري، فالعي بضرورة خلق شروطنا التي ستقودنا إلى الحضارة هو ما ينقصنا،
وشعورنا الجمعي والداخلي بأنه على الأخر مساعدتنا في النهوض هو ما يشكل لنا حجر العثرة في مسلسل الإطلاق الحضاري.
اليوم، لا مخرج حقيقي لنا غير الإرادة الحديدية من أجل الانفكاك الجمعي من هذا النمط المغالي في تمرير الشعور بالخواء الحضاري. و قراءتنا في كتاب مالك بن نبي تأتي في إطار إعادة قراءة فكر الرجل من جهة، والرغبة الجامحة في إعادة النظر في قلاقل الحضارة على ضوء فكره من جهة أخرى. بالعودة لسيرة الراحل – مالك بن نبي – نجد أن حياته كانت بطولها وعرضها حبلى بالهم الحضاري. ونحن اليوم، وبعد ما يزيد على 30 عاما على رحيله، نلفي طرحه الفكري لازال يفرض نفسه، حتى أننا لازلنا نتوسل بفكر بن نبي؛سواء في تحليل الظاهرة الاستعمارية بزيها الجديد،أو برؤيته الثاقبة في فهم منطق التاريخ وقوانينه، والجدير بالذكر أنه كلما اطلعنا على كتاب من مشروع بن نبي إلا وحز في نفوسنا هذا الإقبار للتوجيهات التربوية العملية التي تحملها مؤلفاته، كما أن أفكاره تعاني حيفا في ظرفية تستدعي تلك الأفكار، وتستدعي المعقولية في التعامل معها ؛إن على مستوى قبولها/نقدها أو رفضها /دحضها.
إن الإشكالية التي يعالجها المؤلف في كتابه شروط النهضة؛ هي إشكالية، وسمت جميع كتاباته بصيغة اختار لها:” إشكاليات الحضارة “.وعنوان كتابه قيد المراجعة :‘شروط الحضارة‘، هذا العنوان، يستفز العقل دافعا إياه لطرح سؤال معقول ؛ ما هي الشروط النهضوية التي من الممكن أن تؤسس لقيام حضارتنا ؟ سؤال يدفعنا لعرض أفكار بن نبي.
يستهل بن نبي كتابه بأنشودة رمزية، تبعث في نفس القارئ الأمل ،نعم، إنه أمل بن نبي الغير متناهي في قدرة العهد الجديد على كسر الصنم، والعض على الفكرة لأنها مقوم الحضارة…،إن وقوفه عند دور الأبطال في تاريخ الحضارة العربية، إنما هو وقوف على الأدوار التاريخية للأمة الإسلامية، وبخاصة في إنجاب الأبطال المناهضين لوجود المستعمر، هذا الدور الذي كان يجب تدعيمه بتلافي عقر وتقاعس الأمة عن أداء دورها في إنجاب من يحل مشكلاتها الحضارية..ويجمل بن نبي في طرحه حينما يقول؛ “مشكلة كل شعب هي في الأصل مشكلة حضارته”، فعلى رأس المشاكل الحضارية ؛الوعي المتدني عندنا إزاء عوامل البناء و الهدم ..،وفي هذا المضمار ينظر مفكرنا للحضارة على أنها خيط واحد ممتد من أدم إلى أخر وريث لهذه الأرض، فلكل حضارة أبطالها وصانعي أمجادها. و بالنظر لمالك بن نبي نجده مثقفا، لا ينفصل عن واقعه، ولاعن السياق/الشرط التاريخي لأمته، خاصة وهو يشهدها تعيش في براثين التخلف والقبوع تحت راية المستعمر أو السجان .
يرى بن نبي أن للكلمة قوتها في عملية إيقاظ الأمة، وفي قدرتها غير المحدودة عل خلق الظاهرة وتحريكها، وهذا ما فعلته كلمة “جمال الدين الأفغاني” الذي صدع مناديا من بلاد الأفغان بفجر جديد ونهضة جديدة.
الفكرة الإصلاحية أشرقت شمسها سنة 1925معيدة في الإنسان حاسته الاجتماعية، ومعها رغبته إلى البطولة الجماعية، وقد تحقق هذا بتلقي قادة الشعوب للفكرة الجمالية، و”بن باديس” كان أحد هؤلاء، وبالفكرة أيقظ شعب الجزائر حتى يقتلع الخرافة من جذورها.
يعتبر بن نبي أن تكون الحضارة كظاهرة اجتماعية إنما يكون في نفس ظروف النشأة الأولى، وعلى كل حال، ظروف نشأة حضارتنا كانت محصنة بالفكرة الدينية، وهو يركز على هذه النقطة الجوهرية الكامنة في الفكرة الدينية وقوتها كعامل أساسي في تشكيل الحضارة، إذ نجده في موضع من كتابه يعبر على هذه التيمة؛”من سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم.” فالزوايا كانت تساهم في تسيد الوثن. والجزائر، حسب بن نبي، إن هي تخلصت من الزوايا فهي قد عادت إليها في شكل الأحزاب السياسية، وذلك أن “حروز” الزاوية عادت في شكل الأوراق الانتخابية، وهنا ضاعت فكرة الإصلاح، وأخذت الانتخابات مكانها، وهذه الظاهرة الاجتماعية التي عاينها بن نبي -أخالها – هي من ألهمته المادة حتى ينسج نظريته “القابلية للاستعمارِ”، فأحداث الجزائر جعلته يقرر أن الاستعمار يأتي من الذات، والتخلص من الاستعمار هو في الأول تخلص من الروح التي تؤهلنا للاستعمار.
وفي الباب الثاني من كتابه والذي أعطاه عنونة : {المستقبل} .فيه يشخص بن نبي واقع العالم الإسلامي إبان استيقاظه، شاعرا بلحظة الصحوة، ويعيب بن نبي على إنسان العالم الإسلامي توجهه إلى الأخر حتى يمده بأسباب الشفاء من مرضه، إذ هذا الإعتقاد بإن الآخر/البراني علينا هو من يحوز آليات شفائنا، هذا الإعتقاد أظهر إنسان-عصر تكديس المشكلات؛ إنسان أحس بمركب النقص، كنه لم يجعل من إحساسه بالنقص مدعاة لتجاوز تخلفه، فهو يعاني قصورا من حيث توصيف حالة مرضه من جهة، ومن جهة ثانية بدل أن يرجئ أسباب تخلفه إلى عامل ضحالة مستوى الأفكار عنده، نجده وبكل صفاقة يرجع تخلفه إلى فقره على مستوى الأشياء، جاهلا بقوانين الحضارة الأصيلة، الحضارة التي تنبع من الداخل. والعربي حينما يذهب إلى الغرب بقصد شراء الحضارة فهو في قرارات نفسه لا يدرك تمام الإدراك أنه لا توجد حضارة تبيع روحها، فالمقياس الحقيقي للحضارة ماثل في قدرتها على إنتاج منتجاتها، وعلى هذا المنوال يخلص بن نبي إلى أن كل ناتج حضاري تنطبق عليه الصيغة التحليلية الجبرية الآتية : ناتج حضاري= إنسان+تراب+وقت.
يعتبر مالك بن نبي أن خط الحضارة الإسلامية تقرر مع واقعة صفين، الواقعة التي أخرجت العالم الإسلامي من جو المدينة المشحون بهدي الروح وبواعث التقدم. ففي هذه المرحلة حضارتنا كانت ترعاها الفكرة الدينية وتشكل روحها، وحضارتنا انحطت حينما أعطت إشارات الانسلاخ عن جو تكوينها الأول، وبن نبي يفرد تقسيم لخط الحضارة الإسلامية. يبدأ هذا الخط من البعثة، ويسمي هذه الفترة بمرحلة الروح وهذه المرحلة تمتد إلى معركة صفين، وتأتي بعدها مرحلة العقل، وهي مرحلة تمتد من صفين إلى عهد ابن خلدون، وتليها مرحلة الغريزة وهي مرحلة ما بعد بن خلدون، أو مرحلة إنسان ما بعد الموحدين.
يتناول بن نبي الحضارة كظاهرة، فهي عنده ليست بواقعة تاريخية، لذلك نلفيه ينتقد التفسير المادي للحضارة، هذا التفسير الذي جعل من الحضارة نتيجة لعملية لا إرادية.
ويرى مالك بن نبي أن مشكلة النهضة تتحلل إلى ثلاث عناصر؛ الإنسان،التراب،الوقت .وهذه العناصر هي مجموع المشكل الحضاري عندنا، وحل المشكلات سابق على تكديس المنتجات. فالإنسان في كل حضارة هو العنصر الأول، وهو العنصر الذي بيده التحكم في مقدرات الحضارة؛(التراب والوقت).بن نبي، وهو يشخص حال هذا العناصر في فترة المستعمر، استقر على أن إنسان الجزائر الذي يسكن المدينة في عهد الاستعمار كان هو نقطة تعليق التطور، ولا يجد حرجا في وصف هذا الإنسان برجل النصف أو القلة، إذ هو الذي مسخ فكرة الإصلاح وألصق عليها اسم السياسة، وعليه فإن هذا الإنسان يحتاج إلى فكرة التوجيه بما هي عملية تربوية محضة، تقي الإنسان الإسراف في الجهد والوقت، وتوجه جهده حتى لا يضيع، والتوجيه عملية تهم الأمور التالية :الثقافة/العمل/الرأسمال.
إن توجيه ثقافتنا هو قبل كل شيء تصفيتها من رواسب الماضي، وتهيئتها إلى المستقبل وذلك باعتبار ثقافتنا تتحدد، ككل ثقافة بطريقتين؛ طريقة سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي، وأخرى اجابية تصلنا بمقتضيات المستقبل ( ص 80) .ولاحظ بن نبي أن عملية التحديد هذه قد قام بها القرآن بالطريقتين؛ حينما قطع مع الأفكار البالية للجاهلية، وحينما حدد مستقبلنا.
إطار ثقافتنا الإسلامية هو إطار جامع، داخله تعالج مشكلات الفرد ومشكلات المجتمع، وهذا الإطار مكون من أربع عناصر ؛ عنصر الأخلاق بما هو عنصر ضروري في العلائق المجتمعية، وعنصر الجمال كمحدد للذوق العام، وعنصر المنطق العملي كفن تدبيري للنشاط العامن وأخيرا عنصر الصناعة أو الفن التطبيقي. و يرى مالك بن نبي أن توجيه الأخلاق ، باعتبار الأخلاق حلقة الوصل، هي عملية مأسس لها الإسلام وموجودة في روحه، وفي هذا قال بن نبي؛ “إن قوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام ، ولكن أي إسلام ؟ الإسلام المتحرك في عقولنا وسلوكنا والمنبعث في صورة إسلام جماعي، وقوة التماسك هذه جديرة بان تؤلف لنا حضارتنا “..الأخلاق عند بن نبي أصل تنبعث عنه مقومات الترابط بين شرائح المجتمع، والتوجيه الأخلاقي لابد وأن يكون مرادفا للتوجيه الجمالي، فالأفكار الجميلة حتى تكون، يجب أن يتهيأ لها الإطار الجمالي الذي يمكنها أن تبزغ فيه. أما والحديث عن المنطق العملي فإن بن نبي يرى أن المنطق الذي ينقص المسلمين هو منطق العمل والحركة. والواقع أن المسلم اليوم هو بحق غارق في التنظير والتجريد، وحظ أفكاره الجميلة من التنزيل ضعيف، فهو يغالي في حبه للكسل فيبقى مشلول الحركة . وحضارتنا في جملتها لا تتحدد إلا بمنطق العمل، ومنطق القيم الأخلاقية والجمالية، حضارة توازن الكفة بين جبرية المبدأ الأخلاقي و الذوق الجمالي، فتتجنب السقوط الذي تُرسَمُ معالمه حالما تهيمن إحدى الثقافتين. وكل توجيه بما هو عمل، هو توجيه يرمي إلى خلق الإنسان المؤمن بقدرته على صنع بيئته و مراكمة الرأسمال المتحرك والمطبوع بالديمقراطية لا بطابع الإقطاعية .
المرأة في المجتمع الإسلامي تواجه مشكلات بحجم المخاض الذي تعانيه أمتنا، وحينما يتأمل بن نبي في مشكلة المرأة في المجتمع العربي فإنه لا يقدم حلا لمشكلات المرأة، إذ جعل توصيف الحل من اختصاص المرأة نفسها. بيد أنه كان مشددا على أن مقاربة وحل المشكل يجب أن تراعي مصلحة المجتمع، وعليه فهو ينتقد الحلول التي تكون فيها المرأة المسلمة مقلدة لنظيرتها الغربية، وأكد بن نبي على ضرورة أخد المرأة مكانتها في المجتمع داعيا في هذا الإطار إلى عقد المرأة المسلمة لمؤتمر تناقش فيه مشكلاتها .
و إن كان اللباس أحد مشكلات حضارتنا، باعتبار الزي يؤثر في نفسية مرتديه، فلابد من ارتداء لباس النهضة الذي يحترم ذوقنا الجمالي وقيمنا التربوية الأخلاقية التي تربينا عليها، وشأن ذلك شأن الفنون الجميلة التي يستحب فيها أن تحترم معاييرنا الأخلاقية والجمالية.
وحينما ينتقل بن نبي لمشكلة التراب فإنه ينظر لها على أنها مشكلة جغرافية وطبيعية، فالبلاد العربية جلها صحراء، لكن الرمال الصحراوية الزاحفة يجب أن تكون دافعا لنا من أجل البقاء، والبقاء هو المواجهة…,وإخضاع التراب في تصور بن نبي، هو عملية متاحة بممكن خطة التشجير. أما والانتقال إلى مشكل الوقت باعتباره من مشاكل الحضارة ، فيرى أن الوقت ركيزة في كل نسيج حضاري، ويلخص مشكلتنا في عدم تقدير الوقت واعتباره ثروة، فالوقت في البلاد الإسلامية فاقد لمعناه، حتى أن الزمن أو الوقت ,من حيث هو مجال الإنتاج والبحث عن المعنى هو عندنا في العالم الإسلامي فكرة مفصولة عن التاريخ وبالتالي نحن ننفصل بها عن التاريخ فنعيش التخلف. وحل المشكل في نظر بن نبي هو حل تربوي بالضرورة، بحيث نعود عقولنا على منطق الوقت وأجزاء الوقت، وليس يكون ذلك إلا بالتجربة الجادة في إدارة الوقت الهارب وفي هذا يقول ؛ ” من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطا الوقت الهارب”.
وقد جرت العادة أن يتذكر كل قارئ المفكرين الذين قرأ لهم بشيء ميز مسارهم، والحال أن كل من قرأ لملك بن نبي تذكره بنظرية ’’ القابلية للاستعمار’’ بما هي نظرية مبنية بشكل محكم ومنصفة في تحديد مسؤولية التخلف وعوامل و مدخلات الاستعمار.
إن سياسة المستعمر،كانت دائما، ترمي لجعل شباب المستعمرات يحسون بالنقص كلما قارنوا أنفسهم بالمعمرين/المستعمرين، فالإنسان/الشاب العربي العائش تحت وطأة الاستعمار، لا يجد مهربا من شبابيك القاع التي يصنعها له المستعمر، حتى أن حياته تصبح تحت تصرف المستعمر، والمستعمر لم يصل إلى تصريف حيله إلا بدراسة معمقة للحالة الاجتماعية و النفسية لإنسان المستعمرات، غير أن هذا الاستعمار نفسه كان عاملا لليقظة ودافعا لحركة توسم بكونها “رد الفعل”، والقابلية للاستعمار هي هذا كله، هذا الكل من التداخل بين العوامل الخارجية والذاتية على وجه الخصوص، فالإنسان الذي توفرت فيه شروط الاستعمار هو الذي شعر بتفوق الأخر عليه، إذ حتى أن رضوخه الداخلي عميق لإرادة المستعمر ولا يرى الإنسان القابل للاستعمار أنه قادر على تحقيق أي تطور في معزل عن المستعمر، وكأن بالمستعمر هو الملهم الذي لا يتخلى عنه، والعجب أنه حتى بعد الاستقلال لازلنا نحس بالاستعمار لصيقا بنا، لصيق من حيث إيمانا بالشيء الوحيد والرجل الوحيد، وكأنه ما حان الوقت لندرك أن مشكلتنا مشكلة حضارة، وليست مشكلة أشياء.
على سبيل الختم: إن الدراسة السوسيولوجية لقوانين وشروط الحضارة التي اتسمت بها مؤلفات مالك بن نبي، لهي دراسة جادة ومعقولة، يستحق من خلالها الفيلسوف الجزائري أن يخرج من صندوق اللامفكر فيه. وإنسان العالم الإسلامي اليوم ـ في القرن ال21م ـ ، هو بحاجة إلى من يجمع شتات فكره في زمن الحداثة السائلة/السيولة. ولعلى الثقة في الشباب وفكره وحدها من تستطيع إعادة منطق الفكرة الأصيلة من جديد، كما تستطيع أن تعيد إلى رحى فكرنا جدلية الممكن الذهني والممكن الواقعي فيما يخص شروط نهضتنا المسروقة.
وكما قال بن ني ‘‘ إنها شريعة السماء ؛ غير نفسك …تغير التاريخ ‘‘.