الدكتور جمال المحافظ في حديث عن الشعبوية
دنا بريس
في ظل غياب تعريف موحد ودقيق لها، تستند الشعبوية، على عدة مبادئ سياسية واقتصادية وثقافية، في مقدمتها القطيعة مع المفاهيم الرائجة حول الشعب، الذي يعد وفق القانون الدستوري، أحد أركان الدولة الحديثة بالإضافة الى الإقليم والسلطة السياسية، حث تعتبره “كتلة واحدة” في مواجهة ما تسميهم ب”الحكام المستبدين”.
فضلا عن نفيها في خطابها وجود أسباب موضوعية للتراجع الاقتصادي والأزمات الاجتماعية والسياسية التي تعرفها عدد من المجتمعات الغربية، فإن الشعبوية لا تخفى إيمانها العميق بضرورة القطيعة مع الديمقراطية التمثيلية، مع الدعوة بالمقابل للديمقراطية المباشرة التي تمارس عبر الاستفتاء، في حين تتبنى على المستوى الاقتصادي سياسة حمائية، بدعوى تجنيب المجتمع مساوئ العولمة الاقتصادية ومن سلبيات الهجرة والأجانب.
نظرية المؤامرة
وتشكل نظرية المؤامرة، التي تفسر وقوع حدث معين أو ظاهرة ما بأنه بالضرورة ناتج عن مؤامرة بين أطراف ذات مصلحة، عقيدة أصيلة للشعبوية، فالمشاكل العالمية من قبيل التغيرات المناخية، والأزمات الصحية واشكالية الطاقة ونقص المواد الأساسية، لا تعدو أن تكون سوى ” مؤامرات محبوكة”.
وفي هذا السياق تشكل ” صناعة العدو المفترض “، مكون أساسي في خطاب الشعبوية، ” المرض الطفولي للديمقراطية” كما وصفها الفيلسوف الكندي ألان دونو في كتابه الموسوم ” نظام التفاهة” .
وإذا كانت الشعبوية، غالبا ما ينظر إليها كتيار سياسي يقوم على تقديس الفئات الشعبية، يلجأ الى خطاب عنيف في مواجهة مؤسسات البلدان التي يتواجد بها ونخبها، فإن أحزابا سياسية من اليمن المتطرف الشعبوي من الوصول إلى هرم السلطة بأوروبا، بعد أن تصدرت الانتخابات، وهو ما مكنها من قيادة حكومات، أو شاركت فيها، في حين أصبحت أحزاب شعبوية في بلدان أخرى، تشكل المعارضة البرلمانية الرئيسة.
بيد أن من بين الأسباب التي تدعم انتشار الشعبوية في عدد من البلدان، إلى تدنى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتآكل الطبقة السياسية وفشلها في إيجاد الحلول للمشاكل المطروحة بهذه المجتمعات، الأمر الذي يسهم في زيادة جاذبية الخطاب الشعبوي الذي يستخدم كافة أدوات الاستقطاب كالتجييش، ودعم التعبيرات العفوية، كوسيلة للتأثير وزعزعة المؤسسات الديمقراطية القائمة، بدعوى ” تجاوز أعطاب الديمقراطية التمثيلية” كما يرى البعض .
الزحف الشعبوي
ولا يتردد بعض المحللين التعبير عن اعتقادهم الراسخ بأن الزحف الشعبوي في القرن الواحد والعشرين، يشكل صيغا أخرى منقحة للتيارات اليمينية الفاشية والنازية التي عرفتها أوروبا والعالم في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كانت سببا مباشرا في نشوب حروب مدمرة، وأدت البشرية ثمنها غاليا. وتزامن انتشار الحركات الشعبوية خاصة بأوروبا، مع ظهور فاعلين سياسيين جدد، لا يستندون على إيديولوجية واضحة المعالم، كما هو شأن الأحزاب السياسية التقليدية سواء تلك تتموقع في اليمين أو في اليسار أو ما بينهما .
وفي ظل صعود الشعبوية، تزايد اعتمادها على وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي التي أصبحت بالنسبة لها بديلا عن المؤسسات التمثيلية، كوسيلة للتعبير ولتمرير آرائها ومواقفها، مستغلة ما أتاحه التطور التكنولوجي الذى غزا كافة القطاعات والأنشطة، في تغيير عاداتنا وعلاقاتنا ، والتأثير في معرفتنا وفي حياتنا المهنية وطرق ترفيهنا، وأصبحت وسائل الإعلام، تمس الحميمية والهوية الشخصية، وتغير من محيط شبكاتنا الاجتماعية، كما ذهب إلى ذلك الكاتب والصحفي الفرنسي ريمي ريفيل مؤلفه تحت عنوان” الثورة الرقمية ، ثورة ثقافية”.
الوسائط مكبر صوت
وهكذا وجدت الشعبوية، في الوسائط الرقمية التي غزت – كما هو شأن العولمة – كافة مناحي الحياة، فرصة جد مواتية وفضاء ملائما لنشر أفكارها والدعاية لتوجهاتها، مستفيدة من تراجع وسائل الاعلام المهنية التقليدية وانتشار السطحية والتفاهة والضحالة التي تزايدت مع ارتفاع الإقبال على وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت – نتيجة الثورة الرقمية – عاملا مؤثرا وحاسما في تشكيل الرأي العام والتأثير في العلاقات الاجتماعية.
وإذا كان صعود الشعبوية الملحوظ،يطرح تساؤلات واستفهامات متعددة حول عدد من القضايا منها مستقبل الديمقراطية الليبرالية الغربية، واستقرار المجتمعات وتجانسها، واشكاليات الأمن والسلم والهجرة، و انعكاسات كل ذلك ليس فقط على الشؤون الداخلية، بل على مصير العلاقات الدولية، فإن جذورها – كما جاء في كتاب” ما الشعبوية ؟ ” لعالم السياسة والمؤرخ الألماني يان فيرنير مولر- ترجع إلى توتر بنيوي كامن في الديمقراطية الليبرالية، ما بين تصور قائم على الحرية من جهة والتقليد الديمقراطي الأصلي القائم على المساواة وحكم الشعب وإرادة الجماهير من جهة أخرى.
نادي الشعبوية
وبعد تصدر تيارات سياسية من اليمين المتطرف للساحة السياسية بداية من اليونان لتجتاح بلدان أوروبا الشرقية والوسطى والغربية ( إيطاليا وهولندا وفرنسا وبريطانيا)، والولايات المتحدة ودول بأمريكا اللاتينية، أكدت النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات التشريعية البرتغالية، حقيقة تغير خريطة السياسية، في اتجاه توسيع قاعدة أحزاب اليمين المتطرف الشعبوي، وذلك بعدما أن تمكن حزب ( تشيغا ) اليميني المتطرف، من أن يصبح القوة السياسية الثالثة بهذا البلد الأوروبي في هذه الاستحقاقات التي أفرزت فوز التحالف الديمقراطي يمين الوسط بالمرتبة الأولى، متقدما على الحزب الاشتراكي ( يسار الوسط) الحاكم منذ ثماني سنوات.
ورغم أنه لم يمر على تأسيسه سوى خمس سنوات، حصل حزب تشيغا (كفاية) على حوالي 18بالمائة، في الوقت الذي نال عام 2022، سبعة بالمائة من الأصوات فقط، وتمثيليته تنتقل من 12 إلى 46 مقعدا في البرلمان الوطني الذي يتكون من 230 مقعدا.
الشعبوية المستوردة
وركز الحزب في حملته الانتخابية على مهاجمة المهاجرين واللاجئين، ويحمل زعميه أندريه فينتورا، المعلق والناقد الرياضي السابق بالتلفزيون، المسؤولية لحزبي الوسط اللذين تناوبا على ممارسة السلطة، منذ قيام النظام الديمقراطي سنة 1974، ويشكلان – في نظره – “وجهان لعملة واحدة”.
وبذلك يلتحق طيف من الطبقة السياسية البرتغالية، ب” نادي الشعبوية” بالقارة العجوز، التي من المتوقع أن تشهد صعودا متزايدا لأحزاب اليمين المتطرف، وذلك قبل تنظيم انتخابات البرلمان الأوروبي المقرر إجراؤها ما بين سادس وتاسع يونيو 2024. وهذا ما يجعل التساؤل مطروحا هل تعتبر الشعبوية ظاهرة عابرة أم هي نوع من ” الإيديولوجيات” المعاصرة التي بمقدورها أن تنتشر – وإن بشكل آخر – بمناطق أخرى خاصة بالفضاء المغاربي والعربي والإفريقي، بعد اجتياحها لأوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية ( آخر نماذجها كان جايير بولسونارو الرئيس البرازيلي السابق وحاليا خافيير ميلي الرئيس الارجنتيني).
الدكتور جمال المحافظ